منذ دخول الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض، بَدا انّ ثمة ملفات ستعالجها الادارة الديموقراطية هي بمثابة أولويات ولو على حساب ملفات واهتمامات أخرى.
كان واضحاً انّ إحدى هذه الاولويات تتعلق بالملفات مع ايران وصولاً الى إعادة العمل بالاتفاق النووي مع بعض التعديلات، وفي المقابل وقف العمل بعدد من العقوبات المفروضة عليها.
وفي موازاة ذلك وضعت واشنطن كل الملفات الشرق أوسطية جانباً للتفرّغ لمفاوضاتها مع طهران. وبات معلوماً انّ الادارة الاميركية كانت تريد ان تشمل مفاوضاتها الجديدة حول النووي ملحقين إضافيين يتعلقان بالصواريخ البالستية الايرانية وبالقوى المتحالفة مع ايران في الشرق الاوسط، وفي طليعتها «حزب الله» في لبنان و»الحشد الشعبي» في العراق والحوثيين في اليمن وحركة «حماس» في غزة.
لكنّ ادارة بايدن اضطرت الى وضع هذين الملفين جانباً بعد رفض ايران الكامل لذلك، وهذا ما دفع بإسرائيل الى رفع صوتها اعتراضاً على سياسة بايدن، ما أدى الى عودة التوتر بين رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو والادارة الاميركية.
لكنّ المسار الايجابي للمفاوضات حول النووي في فيينا ما يزال ينتظر توقيتاً سياسياً للاعلان عن التوصّل الى الاتفاق. والأرجح ان هذا التوقيت أرادته طهران الى ما بعد انتخاباتها الرئاسية. لكن في الواقع فإنّ تعديلاً طرأ على الخطة الاميركية المعمول بها، لجهة إعادة الاهتمام الاميركي الى ملفات اخرى في المنطقة ولو قبل التوصّل الى الاتفاق النهائي حول الملف النووي:
ـ الملف الاول ويتعلق باليمن ووجوب تأمين وقف لإطلاق النار لولوج تسوية سياسية. وما دفع واشنطن الى تلك التطورات الميدانية المتلاحقة خصوصاً في مأرب، والتهديدات الصاروخية المستمرة للعمق السعودي. وتتولى سلطنة عمان جزءاً اساسياً من هذا الدور، وهو ما كشفته الزيارة الاخيرة لوزير خارجيتها الى الحوثيين.
ـ الملف الثاني ويتعلق بحركة «حماس»، والذي فرضَ نفسه بعد المعارك الاخيرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين بسبب حي الشيخ جراح في القدس واقتحام المسجد الاقصى. وقد اضطرت ادارة بايدن الى اعادة فتح هذا الملف نتيجة ما حصل، وهو ما أنتجَ توكيل مصر به بعد اعادة التواصل معها بعد جمود في العلاقات الاميركية ـ المصرية منذ تسلّم بايدن السلطة. ووفق ما هو مطروح العمل على احتواء حركة «حماس» من خلال تفاهمات سيُعمَل عليها.
ـ الملف الثالث يتعلق بلبنان، ذلك ان هنالك عدداً من المؤشرات التي توحي بعودة الاهتمام الاميركي القوي والمركّز في لبنان بالتفاهم والتنسيق مع فرنسا.
منذ بضعة ايام، وتحديداً في 2 حزيران، غادرت السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا لبنان متوجهة الى واشنطن في زيارة عمل طويلة بعض الشيء وستستغرق حتى أواخر الشهر الجاري. في هذه الزيارة سيكون للسفيرة الاميركية عدد من الاجتماعات بطلب من مختلف الدوائر الاميركية. لكن اكثر ما لفت هو تضمين برنامجها اجتماعين اثنين مع وزير الخارجية الاميركية انطوني بلينكن، وهذا ما لا يحصل عادة سوى خلال المراحل التي تعتبر مهمة على صعيد لبنان.
وكان واضحاً للذين التقوا السفيرة الاميركية قبَيل مغادرتها الى واشنطن شعورهم بالحماسة التي تُبديها لتحضير تحرّك أميركي فاعل في اتجاه لبنان بمعزل عن التطورات الجارية في المنطقة.
في الواقع، ثمة تحضيرات جارية في واشنطن استعداداً لتحديد موعد جلسة استماع في «الكابيتول هيل» مخصّصة للبنان وتحضّرها لجنتا الشؤون الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ إضافة الى مندوبين وممثلين عن بعض الوزارات والوكالات الامنية والجيش.
وهو ما يعني انّ قراراً ما آخذ في التبلور في الداخل الاميركي، لكنّ تحديد موعد جلسة الاستماع كان ينتظر استكمال التعيينات في الادارة الاميركية في المواقع التي لها علاقة بلبنان والشرق الاوسط. وهذا مرجّح إتمامه قريباً بحيث انّ التوقعات هي بانعقاد الجلسة قبل فرصة الصيف وربما قبل منتصف تموز المقبل.
وقد تداعت غالبية المنظمات الاغترابية اللبنانية في الولايات المتحدة الاميركية للقاء جامع في 23 حزيران الجاري بهدف توحيد جهودها ومطالبها من خلال ورقة موحّدة ستُرفَع الى الاجتماع المنتظر في «الكابيتول هيل».
وفي الواقع، تتوافق دوائر أميركية حساسة مع الشكاوى التي تحملها هذه المنظمات حول فشل كل الطبقة السياسية في لبنان. لا يصدّق هؤلاء الجدل الحاصل بين الطرفين المعنيين بتشكيل الحكومة حول تأمين مصالحهم الشخصية والذاتية والانتخابية، فيما من المفترض تشكيل حكومة إنقاذ لبلد اصبح مدمراً كلياً وجعل اللبنانيين في اسفل المراتب العالمية.
يتحدث هؤلاء باشمئزاز عن اطراف السلطة اللبنانية الغارقين في الفساد ما أدى الى انهيار اقتصادي وإفلاس مالي. كذلك، فإنّ هؤلاء يعتبرون انّ الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت جاء نتيجة لهذا الفساد والاهتراء الاداري. ويتساءل هؤلاء ايضاً بتعجب: هل من المعقول ان يكون لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا يوجد فيه كهرباء رغم كل ما صُرف عليه؟
كذلك يُسمع في الانتقادات الاميركية القاسية انّ الازمات السياسية ليست محصورة بمحطة واحدة، بل انها تتوالى وتهزّ بنيان الدولة بنحوٍ خطير ما أدى بهذه السلطة الى أن تعيش في حالة عزلة دولية وسط تآكل سعر صرف العملة الوطنية وفقدان السلع الاساسية من البلاد، وتقلّص الطبقة الوسطى وانزلاق العائلات اللبنانية الى ما دون خط الفقر.
الواضح، وفق مصدر ديبلوماسي اميركي في واشنطن، ان ليس هنالك من نية للتخلي عن لبنان في مقابل التفاهم مع ايران. انّ الوقت حان لمنع لبنان من ان يصبح دولة فاشلة، وان تغيّر الادارة الاميركية لن يبدّل من سياسة واشنطن تجاه لبنان. وبحسب المصدر نفسه، فإنه وفي نهاية العام 2020 فرضت ادارة دونالد ترامب عقوبات على مسؤولين لبنانيين، وانّ ادارة بايدن تؤيدها وستستمر فيها.
وفي استطلاع جديد أجرته مؤسسة «الباروميتر العربي» الاميركية والمتخصصة بشؤون بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا، تبيّن انّ بلدين فقط لم يقتنعا بأنّ السياسة الاميركية قد تغيرت بين ادارتي ترامب وبايدن. وهذان البلدان هما لبنان والاردن اللذان سجّلا نسبة 27 % فقط فيما بلدان عربية أخرى سجّلت نسباً مرتفعة.
وفي استطلاع سابق للمؤسسة نفسها أُجري في تشرين الاول الماضي حاز ترامب على التأييد الاعلى في لبنان حيث نال 18 %، في مقابل 15 % في المغرب و12 % في الجزائر و7 % في الاردن.
أما في الاستطلاع الجديد، والذي أُجري في نيسان الماضي، فقد طرأ تبدّل طفيف في لبنان حول سياسة بايدن وحصل على 19 %، لكن في مقابل تأييد اكبر بكثير في المغرب 46 % وليبيا 47 % والجزائر 23 %.
لكنّ اللافت انّ نحو 50 % من اللبنانيين يعتقدون أنّ الولايات المتحدة الاميركية قادرة على ان تكون عاملاً مساعداً لهم، فيما نالت فرنسا نسبة 46 % والمانيا 41 % وروسيا 36 % وتركيا 30 % والسعودية 25 % وايران 23 %.
وفي استطلاع الخريف الماضي أظهرت شعوب بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا تفضيلها الصين على الولايات المتحدة الاميركية. اما في الاستطلاع الجديد فتقلّصت الفجوة بمقدار كبير.
في الاستنتاج ليس بالضرورة ان تكون الرياح الاميركية عاتية، بل ربما قد تكون ناعمة، لكنها بالتأكيد ستذهب في اتجاه التغيير، وعلى رسم بداية حقبة جديدة ومن خلال طبقة سياسية جديدة وذهنية مختلفة.