ترك قرار إعتكاف الرئيس سعد الحريري وتيار «المستقبل» عن العمل السياسي تردداته على الساحة السنية واللبنانية وحتى الخارجية، إذ أنه يُشكّل حدّاً فاصلاً بين مرحلة وأخرى.
تنصرف معظم القوى السياسية إلى تحليل دوافع اعتزال الحريري وتياره العمل السياسي في هذه المرحلة، وقد تصل إلى نتيجة وقد لا تصل، لكن الأكيد أن أحداً لا يمكنه معرفة خريطة المرحلة المقبلة وكيفية المواجهة. طبع دخول الرئيس رفيق الحريري الحياة السياسية منذ «اتفاق الطائف»، وباتت الحريرية السياسية المدماك الأساسي في «سيبة» الحكم، وتكرست معادلة جديدة قوامها الأمن للسوريين عبر أزلامهم وسطوتهم المباشرة والاقتصاد للحريري، ولم تدم هذه المعادلة طويلاً لأن السوري أراد التدخل في كل شاردة وواردة وصولاً إلى اغتيال الحريري.
بعد زلزال 14 شباط حاول البعض إحياء هذه المعادلة عبر إعطاء الأمن والقرار الاستراتيجي للدولة ولـ «حزب الله» والاقتصاد لسعد الحريري، لكن «الحزب» حاول السيطرة على كل شيء ووصل البلد إلى ما وصل إليه.
وأحدثت خطوة الحريري إرباكاً في الساحة، وحتى لو لم يكن يمثّل كل السنّة إلا أنه الفريق الأقوى بينما بقية القوى متفرقة ولا يوجد زعامة سنية عابرة للمدن السنية ونقاط التمركز الأساسي.
إذاً هناك مرحلة جديدة سترسم ويقال إن قرار المملكة العربية السعودية بوقف دعم الحريري أوصل الرجل إلى هذا المكان، في حين يتردد أن الحريري نسّق مواقفه مع الرياض لأن مثل هكذا قرار ليس ملك الحريري وحده.
وإذا كان هناك لوم من بعض الوجوه السنية على الرياض لعدم دعمها حلفاءها وتخليها عن السنّة ولبنان، إلا أن هناك واقعاً جديداً نشأ مع الحكم السعودي الجديد وهو أن لبنان ليس من الأولويات والبعد العاطفي في العلاقة بين ملوك الخليج وأمرائه الجدد ولبنان غير موجود بعكس أسلافهم الذين كانوا ينظرون نظرة مختلفة إلى بلد الأرز. وإذا كانت الرياض غير مهتمة كثيراً بالملف اللبناني إلا أن لواشنطن إهتماماتها الخاصة، وهي تحاول ملء الفراغ وتقود المعركة مباشرة ضد تمدد النفوذ الإيراني.
في السابق، كانت تتّكل واشنطن على حلفائها وعلى رأسهم السعودية من أجل المواجهة، لكن أميركا تدخل في مواجهة مباشرة هذه المرة، فهي وإن تخلت الرياض عن لبنان واختار الحريري الاعتكاف فلن تترك الساحة لـ «حزب الله» ومن خلفه إيران.
ومن جهة أخرى، فإن لواشنطن مصالح عميقة في لبنان وأكثرها استراتيجي، وبناء سفارتها الضخمة في عوكر أكبر دليل على هذا الاهتمام، كذلك استمرار استثمارها في الجيش اللبناني ودعمه وتقويته.
تُسقط واشنطن كل الحديث عن تقوية «حزب الله» نتيجة اعتكاف الحريري ولامبالاة الرياض بالملف اللبناني، فهي تقود المعركة بشكل مباشر ولن تسمح بالسيطرة الإيرانية، في حين أن للرياض ودول الخليج مطالب من الحكم اللبناني، وهي لا تريد دعم حكم يسيطر عليه الحزب وايران ويقاتلانها، وهذا لا يعني تخليها عن لبنان.
اذاً ستكون المرحلة المقبلة ضبابية، فاعتكاف الحريري أربك «حزب الله» ومنظومته قبل غيره، لذلك يبقى الانتظار سيد الموقف لمعرفة من سيملأ الفراغ الذي تركه «المستقبل»، وهل يتيح الفرصة لأشدّاء من طائفته لمواجهة الحزب بعد فشله ودخوله بالتسويات معه، أو هل ستكون هناك مقاطعة سنية للانتخابات؟