IMLebanon

سذاجة لبنانية في التوقيت القاتل

 

«لا شيء في الحياة يستدعي الخوف وإنما كل شيء يستدعي الفهم ومن ثم الاحتكام الى المنطق». هو قول مأثور يعمل بموجبه حكماء السياسة، وهو ربما ما يجب العمل وفقه خصوصاً في الشرق الاوسط حيث أدغال السياسة وغموض الصفقات والتسويات والمؤامرات.

وعلى الرغم من التاريخ الحافل بالمآسي والدماء فإنّ اللبنانيين لم يتّعِظوا يوماً من دروس تاريخهم، بل استمروا في مقارباتهم السياسية انطلاقاً من العاطفة والعصبيات الدينية والولاءات لقوى خارج الحدود. فهم لم يقتنعوا يوماً بأنهم ابناء وطن واحد، بل استمروا وقوداً سهلاً في لعبة التحريض بعضهم على بعض يغذّيها وهم انتصار فريق على الآخرين وإمساكه بمفاصل السلطة لوحده. وبقيت الدماء تسيل لأنّ احداً لم يتيقّن بأن الوهم لا يمكن ان يصبح حقيقة. مناسبة هذا الكلام اليوم هي مستجدات ما حصل حول ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت حيث ظهر بوضوح تقاطع مُبهم بين واشنطن و»حزب الله»، اضافة الى استمرار الدوران في حلقة مفرغة حيال الاستحقاق الرئاسي وسط سخافة الكثير من الاسماء التي كل ما يهمّها دخول نادي المرشحين للرئاسة بهدف الوجاهة ربما، بدل التعاطي برصانة ومسؤولية مع المتغيرات الهائلة بدءاً من اوكرانيا ووصولاً الى الشرق الاوسط والتي تصيب مستقبل لبنان في الصميم.

 

فخلال الاسابيع الماضية ضجّت المحافل الدولية بنقاش يتعلق بإمكانية إرسال دبابات متطورة الى ساحات القتال الاوكرانية. وساد النقاش حيال سماح المانيا بإرسال دبابات من نوع «ليوبارد»، ودفع واشنطن لإرسال دبابات من نوع «ابرامز». ولا حاجة للاشارة الى ان هذين النوعين من الدبابات يعتبر الافضل على الاطلاق في العالم. النقاش الصاخب، والذي دارت أجزاء منه عبر وسائل الاعلام، انتهى بالقبول بتزويد اوكرانيا بهذين النوعين من الدبابات. وقد يكون البعض اعتبر المسألة في الاطار العسكري والميداني البحت.

 

صحيح، المسألة لها علاقة بتعديل حاسم للمعادلة العسكرية – الميدانية، لكن ثمة اهداف استراتيجية أبعد بكثير تحكّمت بالنقاش الذي دار في كواليس المفاوضات بين واشنطن وبرلين. ذلك انه منذ اندلاع الحرب في اوكرانيا، عملت الادارة الاميركية على استبدال اولوية المواجهة والاحتواء في سياستها الاستراتيجية على المسرح العالمي، لتصبح روسيا بدل الصين.

 

فالجبهة فُتحت، والدول الاوروبية باتت موحدة لمواجهة التمدد العسكري الروسي. ولأنّ دروس الحروب الكبرى تشير الى ان العواصم الفاعلة تخطط لمرحلة ما بعد الحرب خلال خوضها المعارك العسكرية، فإنّ الاستنتاج يصبح اكثر وضوحاً حيال النقاش الذي دار حول الدبابات الأحدث والافضل تجهيزاً على الاطلاق.

 

ففي دوائر القرار الاميركي ورشة تخطيط لإرساء معادلة عسكرية جديدة في اوروبا بعد وَقف القتال الحربي في اوكرانيا، وللوصول الى ذلك لا بد من نتائج حربية تؤمّن ترسيخ هذه المعادلة الجديدة. فلقد استفادت واشنطن من دروس التاريخ، خصوصاً من دروس الحرب العالمية الثانية حين لم تستمع الى نصائح رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل وغَفلت عن التقدّم البري السريع للجيش الروسي، وهو ما أدى الى رسم واقع ميداني فرضَ نفسه على مفاوضات السلام، وبالتالي اقتسام اوروبا وصولاً الى قلب برلين، أي المساحة البرية التي استولت عليها موسكو، لتبدأ معها مرحلة دولية جديدة عُرفت بثنائية القطبين الروسي والاميركي.

 

وطالما انّ موسكو أضحَت أولوية المواجهة بالنسبة لواشنطن، فلا بد من استثمار تطورات الحرب في اوكرانيا في هذا الاتجاه، وبمعنى آخر تحضير اوكرانيا لدور جديد في مرحلة ما بعد الحرب يرتكِز على اساس وظيفة «حائط صد» امام روسيا. من هنا انواع الاسلحة المتطورة ما بين الدبابات الاكثر تطوراً في العالم، وشبكات الدفاع الجوي الحديثة والمتطورة. لكن ثمة ممراً آخر كانت موسكو قد نجحت في إقامته خلال السنوات الماضية باتجاه الشرق الاوسط من خلال الحرب السورية، وبَنَت إثر ذلك شبكة علاقات ومصالح ارتكزت على تعاون مع ايران وتنسيق مع اسرائيل واجواء دافئة مع دول الخليج العربي.

 

بالنسبة للعلاقة مع اسرائيل فإنّ قاسَمها المشترك هي الساحة السورية، وبالنسبة للعلاقة مع دول الخليج فهي لم تصل الى حدود التعاون العسكري، اضف الى ذلك ان العلاقة الروسية – الايرانية تمنعها من التطور. لكن واشنطن تريد خنق المتنفّس الاقتصادي الروسي عبر دول الخليج، ولذلك سيزور المسؤول عن ملف الارهاب في وزارة المال الاميركية براين نيلسون سلطنة عمان والامارات وتركيا للتأكيد على عقوبات ستتخذ ضد الشركات التي تتعامل مع روسيا ولو بطرق ملتوية، وسط كلام عن تراجع في المستوى الاقتصادي الروسي، فلقد حان الوقت على ما يبدو.

 

اما العلاقة الروسية – الايرانية، والتي باتت ترتكز على التعاون العسكري المتبادل، فإنّ نقطة ضعفها تبقى في سوريا، وتركيا جاهزة لاقتناص الفرصة. فخلال المعارك في اوكرانيا حققت المسيرات الايرانية نجاحاً عسكرياً باهراً لأنها تمكنت من اختراق منظومة الدفاع الجوي الاوكراني، وهو ما أعاد تسليط الضوء على برنامج التعاون العسكري الروسي – الايراني.

 

وخلال الايام الماضية زار رئيس الاستخبارات الاميركية السفير وليم بيرنز اسرائيل بعد مصر، في جولةٍ بقيت بعيدة عن التغطية الاعلامية.

 

والجولة كانت مخصصة للملف الايراني وكيفية مواجهة التعاون العسكري بين ايران وروسيا وتَمدّد نفوذ ايران على رقعة الشرق الاوسط. وقد تكون جولة بيرنز أكثر أهمية من زيارة وزير الخارجية انطوني بلينكن، كونها زيارة عملية فيما زيارة بلينكن ستركّز على الوضع الحكومي الاسرائيلي.

 

الواضح انّ ايران تريد الوصول الى البحر الابيض المتوسط، وهي حققت نجاحين متتاليين في هذا المجال قبل ان يتبدّدا. الأول حين انتزعت من الحكومة السورية ترخيصاً يسمح لها بالتواجد في مرفأ اللاذقية. لكنّ هذا التواجد بقي ضمن حدود ضيّقة بفِعل الاعتراض الروسي الموجود من خلال قاعدة عسكرية بحرية ضخمة في طرطوس ويريد إبقاء الساحل السوري بالكامل تحت نفوذه المباشر.

 

والثاني حين نجح تحالف 8 آذار في الانتخابات النيابية عام 2018 بعد ان كان قد نجح في إيصال العماد ميشال عون الى قصر بعبدا. يومها، صرّحَ مسؤولون ايرانيون بأنّ طهران اصبحت على شاطئ البحر المتوسط. لكن سرعان ما انقلبت الامور في لبنان، وانقلبت معها التوازنات من جديد. وفي عز الانشغال الروسي بمأزق الحرب في اوكرانيا، تقدمت ايران للمساعدة وهي تأمل باستثمارها في سوريا. لذلك فتحت واشنطن الابواب لتركيا التي هددت عسكرياً، قبل ان تفتح قنوات التفاوض مع دمشق بغاية إخضاع شمال سوريا لنفوذها، وهو ما يعني طبعاً إلغاء اي نفوذ آخر في هذه المنطقة.

 

اما سوريا التي تعاني انهيارات على المستوى المعيشي، فإنها وجدت في المصالحة مع تركيا وفتح الحدود الاقتصادية، اضافة الى استفادة علاقتها بالامارات، باباً للتخفيف من الضغط المعيشي الكارثي.

 

وهذا الواقع لم يُرضِ طهران بالتأكيد، وقد عبّرت عن ذلك بوَقف إمدادات المحروقات قبل ان تعود عن قرارها ولكن بكميات محدودة.

كذلك جاء المؤشر السلبي الآخر مع تأجيل زيارة الرئيس الايراني الى دمشق، والتي كانت مقررة نهاية العام الماضي الى أجل غير مسمّى.

 

في المقابل راجت معلومات بأنّ الجيش السوري يستعد للامساك بالمفاصل الحيوية للطريق البري الذي يربط ايران بسوريا وساحلها وايضاً بلبنان.

وقيل ايضاً انّ تركيا، العضو الأقوى في حلف شمال الاطلسي بعد الولايات المتحدة، تشجّع على هذه الخطوة.

 

في الواقع لا تريد أنقرة ايضاً اي مزاحمة لدورها في المتوسط، لكنّ الاهم ان واشنطن مهتمّة بإعادة رسم استراتيجية عسكرية في المنطقة ترتكز على دول الخليج العربي، مضافاً اليها مصر والاردن. أما سواحل البحر المتوسط فتريدها مقفلة، وهو ما يفسّر اهتمامها بالساحل الليبي، وتلزيمها الساحل السوري لتركيا، واهتمامها بالساحل اللبناني الذي شهد اهتماماً اميركياً خاصاً لتمرير الترسيم البحري مع اسرائيل.

 

وبخلاف الانطباع السائد، فإنّ واشنطن مهتمة استراتيجياً بالساحل اللبناني وتعمل وفق ذلك. لذلك يعتقد البعض ان القاضي طارق البيطار ذهب ضحية التسويات التي تدخل في هذا النطاق، وأنه جاء كثمن متأخّر للترسيم البحري وهو المشروع الأهم.

 

أليس غريباً ان تهتم واشنطن وبإلحاح لإطلاق سراح شخص لبناني يحمل الجنسية الاميركية لكنه مقيم في لبنان، وهو مسؤول عن ملف أمن مرفأ بيروت ؟ ثمة إشكالية غير مفهومة خصوصاً اذا لاحظنا انّ أخصام واشنطن هَلّلوا لما حصل ودفعوا بهذا الاتجاه.

 

وصحيح ان باريس تلقّت صفعة في لبنان مرة جديدة، لكن لا بد من النظر الى الاتفاق العسكري الضخم مع رئس الوزراء العراقي بتزويد بلاده بصفقة رادارات وطائرات حربية من نوع رافال وأخرى مدنية من نوع فالكون إضافة الى مروحيات. ولا حاجة للاشارة الى انّ الصفقة من المستحيل ان تتم من دون موافقة واشنطن والى حدٍ بعيد طهران.

 

واختصاراً لكل ما تقدم، فإنّ الاستراتيجية الاميركية الجاري تثبيتها في الشرق الاوسط على اساس مواجهة النفوذ الروسي والصيني، تشمل لبنان وخصوصاً ساحله، ولو انّ ذلك سيكلّف بعض الترتيبات الجانبية كمِثل قضية انفجار مرفأ بيروت، وبالتالي يجب النظر الى الاستحقاق الرئاسي من هذه الزاوية العريضة، لا من زاوية ترف الموقع ووجاهته الاجتماعية كما هو حاصل في كثير من الاحيان.