هل سيسهّل الأميركيون إنجاح الاتفاق السعودي – الإيراني، والتسويات الإقليمية الصغرى التي يُفترض أن تأتي نتيجة له، من اليمن إلى لبنان؟ الأرجح أنّ هذه هي العقدة الحقيقية التي تعترض التسوية في لبنان، وليس التباين الفرنسي – السعودي حول تسمية رئيس للجمهورية.
في المبدأ، لا بدّ للاتفاق السعودي – الإيراني أن يصل إلى لبنان، بعد اليمن وسوريا. فأزمات الشرق الأوسط كلها لن تبقى بعد اتفاق بكين كما كانت قبله. واليوم، تعيش المنطقة مخاضاً سياسياً عنيفاً لا بد أن تتبلور الصورة بعده. وحتى ذلك الحين، لا ملف رئاسة الجمهورية سيتحرّك، ولا طبعاً ملف النازحين السوريين، على رغم الضجيج المُثار حولهما.
وفي الوقت المستقطع، تغرق القوى المحلية في النقاش حول المبادرة الفرنسية واحتمال اقتناع المملكة العربية السعودية بها. ولكن الأزمة تكمن خصوصاً في التعارض الأميركي – السعودي. الأميركيون مستاؤون من نجاح الصين في اختراق الحاجز الخليجي الصلب. وهم يعتقدون أن الاتفاق الذي رَعته بكين في عقر دارها، بين طهران وحليفهم العربي الأقوى، المملكة العربية السعودية، سيقود إلى خطوات لاحقة بين المتصارعين في الشرق الأوسط، تزعزع في شكل تدريجي مَعاقل النفوذ الأميركي في المنطقة.
فالرياض ليست حليفاً عادياً للولايات المتحدة. هي تمتلك رصيداً هائلاً داخل المنظومة العربية والإسلامية. ولطالما كانت واشنطن تستفيد من هذا الرصيد لتثبيت حضورها داخل هذه المنظومة. وفي الغالب، كان الأميركيون والسعوديون يقفون في جبهة واحدة ضد طهران وحلفائها الشرقيين. ولكن، بعد اتفاق بكين، سيجد السعوديون إحراجاً في خوض المواجهات المفتوحة إلى جانب واشنطن.
وللإيضاح، إنّ سياسة «تصفير الأزمات» التي تنتهِجها القيادة السعودية الجديدة لا تعني إطلاقاً التطبيع مع الشرق مقابل قطع الجسور مع الحلفاء التقليديين في الغرب، وفي طليعتهم الولايات المتحدة. ولذلك، ستعتمد المملكة توازناً دقيقاً في تحالفاتها الإقليمية والدولية، يحرُّرها من الالتزامات الضيّقة ويتيح لها هامشاً واسعاً من المناورة شرقاً وغرباً.
وعلى الأرجح، يتفهّم الأميركيون طموحات المملكة، كما يدركون أنّ هناك وقائع جيوسياسية جديدة بدأت تفرض نفسها في العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، وأن العديد من حلفائها سيتخذون تموضعاً أكثر توازناً في المراحل المقبلة، لكنهم يخشون أن يتيح ذلك للصين أن تخرق الخليج والمنطقة العربية في شكل متزايد.
في العقل الأميركي، ما زال الاعتقاد راسخاً بأنّ المملكة وسائر دول مجلس التعاون الخليجي لن تنقلب على حضانة واشنطن، وأنّ منابع النفط والغاز الأكبر في العالم ستبقى تحت السيطرة، بالمعنى السياسي. وثمة مقومات منطقية تدعم هذه الفرضية. فدول الخليج من جهتها ليست في وارد قطع الجسور مع الأميركيين، وتدرك أنها غالباً ما ستحتاج إليهم. ولذلك، يتجنب الأميركيون والسعوديون بلوغ عتبة الإحراج في علاقاتهم.
لكن واشنطن تبذل اليوم ما في وسعها لإبقاء الرياض ضمن دائرة الحلفاء، لئلا يكون خروجها سابقةً تدفع العديد من دول المنظومة العربية والإسلامية إلى القيام بالمثل، وتودي بالبعض إلى توثيق الروابط بالمعسكر الشرقي. وثمة من يعتقد أنّ الأميركيين يعتمدون اليوم سياسة العصا والجزرة في الشرق الأوسط لمنع انفلات المنطقة من أيديهم.
وفي عبارة أكثر وضوحاً، هم لا يقفون في المطلق في وجه التسويات التي تُطبَخ في الشرق الأوسط، لكنهم يريدون أن يكونوا هم رعاتها والقادرين على الحل والربط، لا إيران ولا الصين ولا روسيا.
وفي هذا المجال، هم يترصّدون من سيكون المستفيد من التسوية في اليمن. وكذلك، هم يترقّبون مسار التطبيع بين السعوديين والرئيس بشار الأسد، ويريدون أن يتم أي انفراج بين الأسد والمجموعة العربية بموافقتهم وبالشروط التي تناسبهم. فما يرفضونه ليس الصفقة مع الأسد تحديداً، بل إبرامها «مِن وراء ظهرهم»، وبرعاية بكين وموسكو وطهران، ما يعني فتح أبواب النفوذ لهذه القوى على حساب واشنطن.
وفي ما مضى، أبرمَ الأميركيون اتفاقات عديدة طويلة الأمد مع الأسد، سواء بالنسبة الى ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل أو بإدارة الملف اللبناني، ومن ذلك اتفاقا الطائف والدوحة. واليوم، إذ يصعّدون مواقفهم من الأسد، فمعنى ذلك أن التسوية الإقليمية لم تكتمل، وأن التسوية المرتقبة في لبنان لم تنضج، في انتظار تبديد التعارض السعودي – الأميركي والسعودي – الإيراني.
وفيما يغرق الوسط السياسي في لبنان بتفاصيل التسوية، ويحصر العقدة بالتباين الفرنسي – السعودي حول تسمية رئيس الجمهورية، فإنّ العقدة الحقيقية تبقى إصرار واشنطن على أن تكون هي راعية التسوية. وفي يدها الكثير من أوراق القوة التي تتيح لها التشبّث بهذا الموقف. وحتى إشعار آخر، لا السعوديون ولا الفرنسيون سيكونون في صدد معاكسة الخيار الأميركي في لبنان.
ولذلك، وقبل ساعات قليلة من وصول وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان إلى بيروت، وعودة سفير المملكة وليد البخاري إلى لبنان بانقضاء عطلة الأعياد، وفيما يمضي القضاء الفرنسي في متابعته الحثيثة لملف مصرف لبنان، أصرّت واشنطن وحلفاؤها الغربيون على إصدار بيان في بيروت، له رمزيته الواضحة. البيان الصادر في ذكرى توقيع لبنان اتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد الدولي، وَقّعه سفراء الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان والاتحاد الأوروبي، وتَضمَّن الآتي: «الحلول يجب أن تأتي من الداخل، وتبدأ بإصلاحات ذات مغزى. وإلا فإن لبنان محاصر بأزمة لن تنتهي أبداً».
بين سطور البيان، رسالة تحذير يوجّهها الأميركيون، ولا يمكن لفرنسا إلا أن تكون معهم. فهل تحصل معجزة التوافق الإقليمي – الدولي ويرضى الجميع، أم سيواصل لبنان دورانه في المستحيل؟