توجد ثلاثة أسباب رئيسة تجعل الولايات المتحدة الأميركية، بحسب شخصية سياسية عادت أخيراً من واشنطن، مهتمّة بالإنتخابات النيابية اللبنانية:
ـ السبب الأول، هو رصد مسارها لناحية ضمان أن لا يحقّق «حزب الله» خلالها انتصارات سياسية تمكّنه من الاستمرار في التحكّم بإنشاء معادلة تركيبات الحكومة اللبنانية التي ستُنتجها الانتخابات النيابية العتيدة.
ـ السبب الثاني، وهو أستتباعٌ للأول، ويجعل واشنطن معنيّةً بمراقبة شكل التحالفات الإنتخابية، وبالتالي رغبتها في أن تَحدث على نحوٍ لا تقدّم دعماً انتخابياً وسياسياً لـ«حزب الله» خلال العملية الانتخابية. وعليه، تعطي واشنطن ضمن مسعاها هذا، أولويّة لرصد تحالفات «التيار الوطني الحر» مع «حزب الله»، وهي تفضّل أن يقيم «التيار البرتقالي» تحالفات مع «التيار الازرق» («المستقبل»)، وذلك على حساب تحالفاته مع «حزب الله».
وتعليل ذلك يقع في أنّ السبيلَ الوحيد الذي يمنح الحزب في مناسبة الانتخابات، حيويّة سياسية خارج مناخه الشيعي، هو إبرامه تحالفات واسعة مع التيار العوني في غير دائرة انتخابية. أضف الى ذلك أنّ توسيعَ نطاق تحالفاته الانتخابية مع «التيار البرتقالي» سيقدّم دعماً لوصول مرشّحي الحزب وتحقيق أهدافه السياسية.
وملخص هذه الرؤية المنسوبة لواشنطن، يعني أنّ الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تُفضي هندسةُ خريطة التحالفات الانتخابية الى مؤشر أساس يوحي بعزلة «حزب الله»على مستوى التحالفات الوطنية، والسبيل الأمثل لحصول ذلك هو عزله عن «الرئة السياسية» التي يتنفّس منها خارج مناخه الشيعي، أي عزله عن فضاء «التيار الوطني الحر». وعلى هذا تعطي واشنطن أولويّة، ليس لهدف رفع منسوب التحالفات بين «المستقبل» و«القوات اللبنانية»، وهو أمرٌ شاع أخيراً أنّ السعودية تريده، بل لهدف رفع منسوب التحالفات بين «التيار الوطني الحر» و«المستقبل»، وذلك على حساب تحالف الأوّل مع «الحزب».
ـ السبب الثالث لاهتمام واشنطن بالانتخابات النيابية اللبنانية، فيتمثل بواقع أنّ هذه أول انتخابات نيابية سيقترع فيها اللبنانيون المقيمون خارج لبنان، وضمنهم المقيمون على الأراضي الأميركية. وتجدر الإشارة في هذا المجال الى أنّ ترتيب هؤلاء المقيمين في أميركا بين كل المغتربين اللبنانيين الذين سجّلوا أسماءَهم للإقتراع في انتخابات هذه السنة، جاء في المرتبة الثالثة (10 آلاف)، فيما سجّل في كندا 12 الف لبناني، وفي أستراليا 11 الفاً.
في واشنطن يعتبرون أنّ النسبة المتقدّمة لمجموع المغتربين اللبنانيين في أميركا، قياساً بأعدادهم في دول أُخرى، يعني أنّ أعداد هؤلاء ستتزايد خلال الدورات الانتخابية المقبلة. فتبوُّء الجالية اللبنانية في أميركا، المرتبة الثالثة منذ أول فرصة أتاحت لها فيها الدولة اللبنانية الاقتراع، تؤشر الى قابلية أبناء هذه الجالية العالية قياساً بالجاليات اللبنانية الأخرى، لارتباطهم بالمناخ السياسي في لبنان. علماً أنّ القراءة السياسية الاستطلاعية الأوّلية لتوزّع اللبنانيين في أميركا وأوروبا الذين سجّلوا أنفسهم للاقتراع، تُظهر أنّ نسبة المنتسبين الى حزب «القوات اللبنانية» بين الموارنة هي الأعلى، يليها المنتسبون الى «التيار الوطني الحر»، بينما المستقلّون نسبتهم أقل، وأيضاً المشجّعون للحراك المدني في لبنان. أما بين المسلمين السنّة، فالنسبة الأعلى لمصلحة التيار، وتوجد منافسة له بين بعض البيئات من قبيل جمعيات إسلامية ومنها «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» (الأحباش) وغيرها. أما الشيعة اللبنانيون الذين سجّلوا للاقتراع في الدول الأوروبية واميركا، فهم موزّعون بين الثنائي الشيعي، فيما المستقلّون بينهم يأتون بدرجة أدنى.
وتعتبر مصادر في واشنطن مطلّة على هذا الملف، انّ الاستنتاج الرئيس والأولي يفيد أنّ خريطة التوزّع السياسي لديموغرافيا الإغتراب اللبناني في أميركا ودول الغرب هي نفسها تقريباً الموجودة في لبنان، وعليه فإنّ التحالفات السياسية والانتخابية الجارية في لبنان بات منحاها السياسي يجد اهتماماً لدى هذه الدول، لأنها ستكون لها انعكاسات على السلوك والتفكير السياسي للجاليات اللبنانية المقيمة فيها، ذلك أنّ فتح الدولة اللبنانية الباب لمشاركتها في الانتخابات، يقوّي صلاتها المباشرة والحزبية والإنتخابية بالمناخ السياسي اللبناني..
وفي مقابل ما تريده واشنطن وما يهمّها من انتخابات أيار 2018، فإنّ «حزب الله» لديه تصوّره السياسي العام للمعركة الإنتخابية النيابية المحتدمة حالياً، والذي على أساسه حدّد نظرته الى تحالفاته وترشيحاته وأهدافه منها.
ويقوم تصوّر الحزب على اعتبار أنّ المعركة الانتخابية الحالية تجري في توقيت سياسي حساس له، خصوصاً في ظلّ تعاظم المعطيات لديه التي تؤكّد أنه سيكون مستهدَفاً في المرحلة المقبلة بـ«حرب ناعمة» ستتعدّد ضمنها «أدوات إيذائه»، فمِن تنويع للعقوبات المالية عليه، الى رزمةٍ من القرارات ذات الطابع القانوني التي تدينه، والتي بدأت بتجريمه بالإتجار بالمخدرات ما يسمح بجعل الأوروبيين يتخلّون عن فكرة التفريق بين الجسم السياسي للحزب والجسم العسكري، وصولاً الى توقّع صدور أحكام جديدة ضده عن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وبحسب مصادر في الحزب، فإنّ هذه القراءة المتوقِّعة استهدافه بـ«حرب ناعمة» غير مسبوقة، جعلت قيادته ترسم استراتيجيّة لتبني سلوك سياسي خلال الانتخابات يشدّد على أمرين اثنين:
ـ الأول، أن تكون كل ترشيحاته حزبية، بمعنى ضمان أن تكون كل حصته من النواب الشيعة حزبيّة، عدا شخصية واحدة هي اللواء جميل السيد التي توجد لترشيحها من خارج جسده الحزبي حسابات استثنائية.
وعلى رغم أنّ الحزب واجه اعتراضات من داخل قاعدته الانتخابية الاجتماعية على جعل انتقائه لمرشّحيه محصوراً باعتبارات حزبية صرفة، إلّا أنّ قيادة الحزب أصرّت، رغم ذلك، على الذهاب في خيار ترشيح «نواب حزبيين» تخضع معاييرُ انتقائهم لطبيعة خطته لمواجهة تحدّيات «الحرب الناعمة» الضارية المتوقعة ضده في الفترة المقبلة.
ـ الأمر الثاني يتمثل في أنّ استراتيجية «حزب الله» لإرساء تحالفاته الإنتخابية، تقوم على مراعاة أمرين سياسيَّين اثنين، أولهما توجيه رسالة تؤكّد بنحو حاسم، أنّ تحالف الثنائي الشيعي «حديدي» وغير قابل لأيّ اختراق سياسي، وهو ليس موسمياً – انتخابياً، بل هو خيار سياسي استراتيجي دائم وله الأولوية على كل تحالفات الحزب الأخرى. والثاني هو الإستمرار في تقديم الجهد المطلوب لإبقاء تفاهم «مار مخايل» حيّاً، واتّباع تكتيكات سياسية تحاول إظهارَ معناه السياسي في مناسبة الانتخابات النيابية وذلك من خلال ابرام اكبر نسبة تحالفات معه في الدوائر الممكنة انتخابياً، وحيث لا يتعارض التحالف مع التيار العوني مع الإعتبارَين السابقين للحزب، وهو أن يكون جميع مرشحي حصته من المقاعد الشيعية، حزبيّين (وهذا ما يفسّر صدامهما في دائرة جبيل)، وأن تكون الأولويّة لتحالفه مع حركة «أمل» (وهذا ما قد يؤدّي لصدامهما في دائرة بعبدا).