ما يوجِّه سياسات الولايات المتحدة الأميركية في العالم هو مصالح كتلها الاحتكارية الضخمة التي طوَّرت «العولمة» الشاملة واستفادت منها، ولا تزال، إلى الحد الأقصى. لكن أساليب خدمة هذه المصالح، من قبل ممثليها في «البيت الأبيض» و»الكونغرس» الأميركيين وسواهما من المؤسسات والأجهزة، ليست واحدة: بسبب التنافس والتباين، وكذلك بسبب خصوصيات المراحل والأحداث نفسها وشبكة المصالح والتناقضات المتممة في الحقلين الداخلي والدولي.
في مجرى ذلك قد تتعاظم الأخطاء في التنفيذ إلى درجة فائقة الأضرار. حصل هذا الأمر، مثلاً، أثناء ولايتي جورج بوش الابن. انتهت مغامرته وفريقه من «المحافظين الجدد» في العراق، بخسائر فادحة على المستويات كافة: العسكرية، والسياسية والأمنية، والاقتصادية… ليس أدل على ذلك، بشكل خاص، من الأزمة الهائلة التي ضربت الاقتصاد الأميركي بدءاً من أواخر عام 2008 وتداعت ارتداداتها السلبية على كل الأوضاع النقدية والاقتصادية في العالم (الرأسمالي خصوصاً).
لكن في رصيد النمط الأميركي في الإدارة السياسية والاقتصادية… القدرة على الحد من الخسائر، وذلك بسبب التنافس وحيوية وتنوع الأساليب التي تحدثنا عنها، وإن كان بشكل محدود، ودائماً في خدمة مصالح الكتل الاحتكارية الكبرى. أما ادعاء دعم وخدمة قيم عامة فيبقى في الحقيقة، مجرد مزاعم لم تصمد يوماً أمام جموح تعظيم الربح وبسط الهيمنة وبشاعة الأدوات والأساليب.
ما حصل في الكونغرس الأميركي، قبل أيام، لجهة إدانة أساليب التعذيب ضد المعتقلين من قبل إدارة بوش الابن الأولى، لا يخرج عن إطار عمليات المراجعة والتحسين، بما في ذلك تحسين صورة أميركا في العالم عبر الادعاء بإيلاء أهمية لحقوق الإنسان بمعزل عن شبكة المصالح الاحتكارية وأحياناً بالتضاد معها. الهدف الفعلي هو غير ذلك تماماً: إنه تكريس إضافي لانعطافة كبيرة في السياسات الأميركية لجهة التخلي عن استراتيجية «الحرب الاستبقاقية» وإرسال مئات آلاف الجنود إلى الخارج وإنفاق أرقام خيالية على الانخراط المباشر في النزاعات القائمة أو المفتعلة. كانت لجنة بيكر – هاملتون التي تشكلت من قبل الحزبين اللذين يتداولان دائماً السلطة في الولايات المتحدة الأميركية (الجمهوري والديمقراطي) والتي كُلفت بالنظر في «إخفاقات» واشنطن بعد غزو العراق، قد دشنت مرحلة الانتقال من التدخل المباشر (الذي أغرى به انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته أوائل التسعينيات) إلى التدخل غير المباشر، قليل التكلفة بالضرورة، الذي تمارسه إدارة الرئيس باراك أوباما بدعم شبه شامل من أصحاب القرار في واشنطن (رغم الانتقادات التي تتناول الأداء لا جوهر السياسات).
الخسائر الناجمة عن السياسات الأميركية السابقة والراهنة لم تنحصر في الحيِّز العسكري والبشري والاقتصادي
لكن الخسائر الناجمة عن السياسات الأميركية السابقة والراهنة (المستمرة في مناطق وجوانب أخرى حول العالم) لم تنحصر في الحيِّز العسكري والبشري والاقتصادي فحسب… لقد امتدت أيضاً إلى الحقل الأخلاقي والحضاري نفسه. ليس الغزو والعدوان بمبررات كاذبة ومفضوحة أمراً حضارياً. وليس تدمير سيادة بلدان ومرافقها وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من أبنائها «مسألة فيها نظر»! وليس التعذيب البشع والاعتداء على كرامة السجناء (أبو غريب مثلاً) ذوَي صلة بكرامة الإنسان وحقوقه. هذا فضلاً عن نهب ثروات تاريخية وأخرى اقتصادية بطريقة همجية لا يدانيها إلا السكوت على جرائم الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، وهي جرائم مستمرة كان آخرها العدوان البربري على غزة وشعبها في الصيف الماضي…
ينبغي أن نضيف بأن «داعش» وأمثاله ممن تقوم الآن من أجل محاربتهم الأحلاف الإقليمية والدولية بقيادة الإدارة الأميركية، قد ولدت أساساً من رحم الحروب الأميركية: بتشجيع منها مرة أو كردة فعل عليها في مرة ثانية! لا يبرر ذلك، قطعاً، ما تمارسه قوى الإرهاب والتكفير من إجرام غير مسبوق في الشكل على الأقل. لكن الحقيقة يجب أن تقال كلها، لكي تكتمل الصورة بشكل صحيح، ولكي يبنى على ذلك مقتضاه في تحديد المسؤوليات وإجراء ما ينبغي من المحاسبة المادية أو الأخلاقية. ذلك أن الصراع ما زال مفتوحاً وخسائره ناتج معظمها من انتهاكات وارتكابات الكبار قبل الصغار…
لكن الأسوأ في كل ذلك، أن البعض ما زال يطالب الإدارة الأميركية بالعودة إلى سياسة التدخل المباشر بالجيوش لا بالمستشارين فقط! ونسمع، كل يوم، مزيداً من الهجاء ضد «ضعف» الرئيس أوباما و»تردده». يُحيل ذلك، في الواقع، إلى عامل مهم من عوامل العجز والتبعية والتفريط. وهو ما ساهم في جعل منطقتنا حقل صراع دائم وشبه وحيد في هذا العالم المترامي وذي الأزمات والمشاكل المتعددة والمتنوعة، إذ تفيد لوحة الصراع الحالي، المعقد والضاري، في بلداننا، وكأن هذه البلدان، تدخل جميعاً في مرحلة أو حالة «الفشل»: لقد باتت الحروب والقوى المتقاتلة كلها «محلية». أما الخارج فيراقب ويدير ويستفيد ويقدم نفسه مساعداً ومنقذاً… هذا وسط تشابك في التناقضات واستحضار للعصبيات وانتهاك للقيم والأخلاق والتقاليد الحضارية، من أبسطها حتى أعقدها، بشكل غير مسبوق.
من نافل القول إن منطقتنا مكشوفة إلى الحد الأقصى: لا مؤسسات موحَّدة ولا مرجعيات فعّالة ولا ديناميات سياسية جدية للتعامل مع الأزمات واحتواء نتائجها الكارثية التي تنتشر كالنار في الهشيم. ولا نتحدث هنا فقط عن مؤسسات معطَّلة كجامعة الدول العربية، وما نشأ في رحمها وكنفها من مؤسسات ولجان لم تكن يوماً فاعلة أو مؤثرة. لقد ضرب الوهن والخلل والتفكك أيضاً، أطراً كانت، إلى الأمس القريب تتمتع بالحد الأدنى من التماسك والتضامن كمجلس التعاون الخليجي الذي لم يبرأ، رغم كل المحاولات، من انقسام غير مسبوق لم ينفع في علاجه واحتوائه كل ما بذل من ضغوط وجهود وتعهدات وتهديدات ومناورات! لم تكن المؤسستان اللتان ذكرناهما يوماً، موضع ثقة أو أمل، إلا أن ذلك لا يبرر أبداً بقاءهما على هذا النحو من العجز والهامشية فضلاً عن استخدامهما غالباً من قبل أعداء حقوق ومصالح شعوبنا وبلداننا! ينطبق ذلك أيضاً على مؤسسات إقليمية كانت قد أُنشئت بهدف النهوض والتحرر و»التصدي» لكنها تعطلت هي الأُخرى، أما ما تبقى منها فهياكل فارغة لا تسمن ولا تغني. لا ينبغي أن نستثني أيضاً ما أصاب مجمل قوى التغيير والتحرر من فشل وأخطاء، خصوصاً بسبب آفة التفرد والتمسك بالسلط والنفوذ، وغالباً بوسائل القمع والمنع والاستبداد، مما صرفها عن أهدافها التي رفعتها في مراحل المعارضة والتأسيس…
لا يعني كل ذلك الاستسلام لليأس. ثمة عناصر مقاومة ما زالت قائمة وفاعلة. بل ثمة انتصارات قد تحققت في وجه التحالف المعادي لمصالح شعوبنا في أكثر من حقل ومن ساحة. وهذه العناصر بدت، إلى فترة قريبة، حاضرة وواعدة بشكل كبير، وهي قد تستمر كذلك رغم كل مما حصل إذا استدركت وراجعت وصححت. ما تراكم من الأخطاء في النهج والأساليب قدَّم التحالف المعادي هدايا وانتصارات مجانية لا يجوز تكرارها ولا السكوت عليها بعد اليوم.
لا شك في أن بناء مسار مواجهة جديد، يتطلب تكراراً، إعادة نظر جذرية بالتوجهات والأساليب والعلاقات. هذه مسألة معقدة وصعبة لكنها رغم ذلك ممكنة وضرورية ومصيرية للخروج من أزماتنا المتفاقمة والقاتلة.