IMLebanon

واشنطن وموسكو لا تملكان وحدهما المفتاح السوري

الرهان كبير على اجتماع فيينا غداً. لكن المعطيات على الأرض وتضارب السياسات لا تبشر بأمل كبير في معاودة إطلاق المفاوضات بين السوريين، للخروج بحل سياسي مرضٍ للجميع. ليس هناك مفتاح واحد للتسوية. بل مفاتيح شتى موزعة على طول المنطقة وعرضها. أي أن التفاهم الأميركي – الروسي لا يشكل مدخلاً كافياً.

الجولة الأولى من المفاوضات دارت على وقع التفاهم بين اللاعبين الكبيرين، روسيا والولايات المتحدة. ولكن يبدو أن هذا ليس كافياً. أي أن القوى المتنفذة في المنطقة وتلك المعنية بالأزمة لا تزال قادرة على التعطيل. وينسحب هذا الواقع على أزمات ليبيا واليمن والعراق أيضاً. وشكل حضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى السعودية صورة لهذا الواقع، عشية اجتماع «مجموعة دعم سورية». فالرياض لا تزال تتمسك بمواقفها السياسية بخصوص كل هذه الأزمات. بل ستمعن في التشدد على وقع مماطلة الحوثيين في محادثات الكويت التي تنم عن رغبة إيران في التمسك بالساحة اليمنية. لذلك لا يمكن واشنطن وغيرها تجاوز مواقف الرياض التي لا تساوم على أمنها وأمن مجلس التعاون. وكان كيري حريصاً على حضور اجتماع باريس لعدد من وزراء الخارجية العرب والأوروبيين. ذلك أن إدارته تخشى خروج كل هذه القوى، المفــترض أنها في صفها، عن السياسة التي رسمتها بالتفاهم مع الكرملين. فموسكو وواشنطن تستأثران حتى الآن بعملية التفاوض. لكن تجربتهما السابقة في إلزام القوى الميدانية بوقف الأعمال العدائية لم تكن مشجعة. وليس السبب في تحديد زمن الهدنات وتمديدها بضعة أيام. وهو إجراء عجيب غريب! فلماذا لا يكون وقف العمليات القتالية مفتوحاً بالتوازي مع العملية السياسية بدل تحديده بالساعات؟

ثمة أسباب كثيرة لا تشجع على كثير من الأمل. والاتفاق على وقف القتال في حلب وريفها لتجنيب المدينة مزيداً من التدمير والتهجير سيظل هشاً. فكيف الوصول إلى وقف شامل للنار في كل سورية، باستثناء «داعش» و «النصرة» طبعاً. على أميركا قبل التوجه إلى «حلفائها» التقليديين، أن توضح رؤيتها لخريطة تنفيذ القرار الدولي ونتائج لقاءات فيينا الأولى. وعليها أن تتوصل إلى تفاهم واضح مع روسيا يبدد اختلاف القراءات والتفسيرات، سواء بالنسبة إلى مفهوم المرحلة الانتقالية وهيكلها التنفيذي، أو بالنسبة إلى مستقبل الرئيس بشار الأسد. بالطبع إن مرد هذه التباينات، إلى ارتباط الحل السوري بقضايا أخرى أعم وأشمل، تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي بالخلاف المتصاعد على تدشين «الدرع الصاروخية» في رومانيا بعد تركيا، ولاحقاً في بولندا. وهو ما يغيظ روسيا التي هددت بردّ «متكافئ». إذ هي تشعر بأن رهانها على ورقة الشام لم يفتح لها باب المقايضة. في حين أنها تحرص على إنجاز تقدم، قبل رحيل الإدارة الحالية، يثبّت لها مكاسبها في المنطقة. وينتزع الاعتراف بعودتها لاعباً نداً في المجتمع الدولي. ولا شك في أن تقدم «الدرع» نحو فضائها الأمني سيعزز تمسكها بسورية، ما دامت أبواب واشنطن موصدة ولا تبالي في مقايضات ومساومات.

غياب الرؤية الدولية الواحدة ليس وحده وراء تعثر التسوية في سورية وغيرها. القوة الإقليمية أثبتت أنها قادرة على وضع العصي في دواليب العربة الروسية – الأميركية. صراعها الواسع على امتداد المنطقة وتناحرها الميداني في أكثر من ساحة عقبتان في وجه أي تفاهم جدي على وقف القتال. النظام السوري يرى إلى السياسة الأميركية الحالية حتى نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما فرصة سانحة لمواصلة أهدافه العسكرية التي عبر عنها طويلاً. لن يقبل الجيش السوري بأقل من «تحقيق الانتصار النهائي» كما عبر عن ذلك الرئيس بشار الأسد في برقية إلى نظيره الروسي قبل مدة. أي الحسم الميداني. هذا ما لا يزال يتمسك به منذ نيف وخمس سنوات، مستنداً إلى دعم حليفيه الإيراني والروسي. لم تعد تقلقه «الخطة باء» التي لوح بها الوزير كيري قبل أشهر. إذ لم يعد أمام إدارة الأخير متسع من الوقت للبحث في مثل هذه الخطة التي تثير غضب موسكو أيضاً. لا يملك البيت الأبيض سوى إدانة الانتهـــاكات. وهو يدرك أن حلفاءه الأوروبيين ليسوا راضين عن تغييبهم، كما حصل أثناء مسيرة المفاوضات الخاصة بالملف النووي التي تحولت بين طهران وواشنطن وليس بينها وبين عواصم الدول الكبرى الأخرى إضافة إلى برلين. وكان الاجتماع الأخير الذي دعت إليه باريس لمجموعة من وزراء الخارجية محاولة لفرض نفسها في لقاء فيينا غداً الثلثاء. إذ تشعر هذه المجموعة بأنها عاجزة عن الفعل والتأثير في ما يرسمه الطرفان الروسي والأميركي.

والحال أنها تأخرت. كان عليها أن تدرك أن لقاءات فيينا التي شقت الطريق إلى قيام «مجموعة دعم سورية» ثم تفرد موسكو وواشنطن، طوت نهائياً «صفحة أصدقاء سورية». تماماً مثلما جبّ التدخل العسكري الروسي كل ما كان قبله. فقد بدل المشهد الاستراتيجي كلياً، وفرض على جميع اللاعبين تبديل خططهم وأهدافهم.

سهلٌ أن يعلن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت التمسك بالمرحلة الانتقالية التي نص عليها القرار الدولي 2254، وأن يدعو إلى تقاسم المسؤوليات في الجيش والاستخبارات ثم وضع دستور فالانتخابات «وطبعاً رحيل الأسد». لكن السؤال، ماذا تملك فرنسا وأوروبا من أسباب القوة للضغط على روسيا وإرغامها على إلزام النظام وحلفائه الآخرين التقيد بالهدنة أو القبول بتقاسم المسؤوليات خصوصاً في المؤسسات العسكرية والأمنية، أو التوصل إلى إبعاد الأسد؟ القارة العجوز مثلها مثل أميركا تكاد تكتفي بالتنديد وتوجيه الاتهامات. وسينتظر رياض حجاب طويلاً لترجمة دعوته «أصدقاء سورية» إلى أفعال وليس أقوال فحسب. انصرفت أوروبا طوال السنة الماضية إلى الحد من تداعيات أزمة اللاجئين إلى بلدانها. كادت تغرق، وهي لا تزال تحت رحمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يهدد بإلغاء الاتفاق الذي أبرمه رئيس حكومته أحمد داود أوغلو. إنه يساوم هو الآخر بالورقة السورية لتحقيق أهدافه الخاصة. وتندرج في هذا الإطار عودته إلى التلويح بالتدخل الميداني عبر الحدود الجنوبية لبلاده. لم يتخل عن موقفه من أزمة سورية، على رغم معارضة الولايات المتحدة هذا الموقف. إنه يخوض حرباً مفتوحة مع حزب العمال بعد سقوط الهدنة التي استمرت سنتين. وبين أهداف حربه، منع تمدد «وحدات حماية الشعب»، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديموقراطي القريب من حزب العمال، والحؤول دون قيام إقليم مستقل على غرار ما في شمال العراق. ومثلما بين الأهداف دعم الفصائل التي تدافع عن مدينة حلب، لأن عودتها إلى حضن النظام توجه ضربة قاسية إلى حزب العدالة والتنمية الذي يواجه معركة مفتوحة مع أحزاب المعارضة على الدستور الجديد وهوية تركيا ودورها في الإقليم. بينما يسعى إلى إعادة اللحمة إلى صفوفه بعد استقالة أحمد داود أوغلو من زعامة الحزب.

لكن التجارب السابقة علمت المعارضة السورية أن تصريحات أردوغان وتهديداته شيء والواقع الفعلي شيء آخر. فهل يقدر الرئيس التركي على خوض مواجهات في جبهات عدة دفعة واحدة، في الداخل ومع أوروبا والولايات المتحدة وروسيا دفعة واحدة؟ هو يدرك تماماً إصرار روسيا على إقفال الحدود السورية – التركية. وهو ما ترغب فيه الولايات المتحدة أيضاً التي لا تلتقي مع موقف أنقرة. ويدرك جيداً منذ إسقاط الطائرة الروسية أن العمليات الجوية الروسية فوق حلب وريفها وعلى حدود تركيا لا تهدف إلى طي صفحة «المنطقة الآمنة» فحسب، بل تؤكد إصرار موسكو على إقفال الحدود أمام تنقل مقاتلي الفصائل المختلفة. وهذا ما أعاد التشديد عليه الوزير سيرغي لافروف لنظيره الأميركي.

لا تريد موسكو أن يشاركها أحد في رسم مستقبل بلاد الشام. أخفقت في إدراج «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» على لائحة مجلس الأمن للحركات الإرهابية. لكنها لم تتخل ولن تتخلى عن تفكيك صفوف المعارضة العسكرية والسياسية حتى إرغامها على قبول ما ترسمه هي.

وإذا كان تدشـــين «الدرع الصاروخية» في رومانيـــا أضاف تعقــــيداً جديداً إلى أزمة ســـورية، فإن سقــــوط عدد من القتلى الإيرانيين في جبهة حلــــب واغتيال مصطفى بدر الدين قرب مطار دمشق، سيدفعان طهران و«حزب الله» إلى مزيد من الانخراط فــي الحرب. وهما يرتابان من الدور الروسي كمثل ارتياب جل العرب من دور أميركا. وليس هذان التطوران مؤشرين وحيدين إلى استعصاء الحلول السياسية. بل إن ما يجرى في اليمن والعراق، فضلاً عن ليبيا، يعزز الشعور بموت السياسة ليس في هذه البلدان وحدها، بل على المستوى الدولي أيضاً… فيما يجتاح الموت والفقر والتهجير سكان المنطقة ولا من يحرك ساكناً.