IMLebanon

واشنطن وحبوب الكبتاغون السعودية

واضح جداً أن واشنطن في أزمة رؤية. خصوصاً حيال الشرق الأوسط. والمؤكد أكثر أنها أزمة نحن من يدفع ثمنها.

أمثلة قليلة، لكن معبّرة، كافية لتشي بذلك التشخيص: توماس فريدمان، في عامود شهير له في 2 أيلول الماضي، وضع نظام آل سعود في موقع المتهم والمحاكَم. حتى أصدر بحقه أحكاماً مبرمة: أسوأ ما حصل للعالمين العربي والإسلامي، هو دأب مليارات النظام السعودي على ضرب كل ما هو تعددي ومعتدل وعصري في هذين العالمين، منذ السبعينات!

بروس ريدل، أحد خبراء التركيبة السعودية في واشنطن، ومساعد بيل كلينتون سابقاً لشؤون المنطقة ومنها شجون الرياض، كتب في 21 أيلول الماضي أيضاً، بحثاً مفصلاً لأحد مراكز صناعة القرار الأميركي. فبدا الكاتب العارف بمحمد بن نايف منذ عقود، حذراً متحفظاً متردداً في اتخاذ أي موقف أو رفع أي توصية. اكتفى بتوصيف سردي، مع إشارات إلى أن كل الأمور ممكنة، وكل الحلول معقدة!

هنري كيسنجر، تأخر في الإدلاء بدلوه حتى 16 تشرين الأول الجاري. كانت طائرات موسكو قد بدأت تهدر في سماء الشرق الأوسط. مسألة لا شك أنها تركت مرارة بالغة لدى وزير الخارجية الأكثر شهرة في واشنطن. أصلاً، لا يخفي ذلك في مقاله. يروي كيف أن عودة روسيا إلى ضفاف المتوسط، تشكل انقلاباً جذرياً على الأحداث التي «شهدها» قبل 43 عاماً، وانتهت بخروج الاتحاد السوفياتي كلياً من عندنا، وسيطرة إدارته الكاملة على منطقتنا. المهم أن كيسنجر، وإن تحت وطأة حساسيته الشخصية والحدث الروسي في سوريا، كتب إلى صناع القرار الأميركيين ما فحواه: لا تتخلوا عن الدول السنية في المنطقة. لا تركنوا إلى إيران. غير صحيح أنكم تستطيعون أن تكرروا مع طهران ما أنجزته أنا مع بيجينغ قبل 44 عاماً. إدعموا مصر والسعودية والأردن. لا تقبلوا بهزيمة داعش على أيدي طرف غير سني. أكثر من ذلك، لا تقبلوا بأن يحكم أرض دولة داعش الحالية في سوريا وحتى في العراق، إلا «سنة معتدلون». قبل أن يختم دارس ميترنيخ بتوصية: إنتظروا تركيا. إذا خرجت سليمة معافاة من أزمتها الراهنة، ضمّوها إلى هذا المعسكر. فقد تكون مفيدة جداً فيه وله!

ثلاثة أمثلة أميركية معبرة. فالإطار الفكري العام لأصحابها، لا يفترض أن يكون بهذه الهوامش. ومع ذلك، تجد امامك ثلاثة نماذج: السعودية هي المشكلة. السعودية هي … السعودية. السعودية هي الحل! هي المعضلة نفسها، أو الإشكالية السياسية الجيو استراتيجية نفسها، التي لا تزال واشنطن تتعامل معها منذ غادر روزفلت يالطا متجهاً مباشرة للقاء عبد العزيز بن سعود. بعدما اكتشف في لقائه الثلاثي مع القيصر المنتصر ستالين، والعجوز الذاهب إلى هزيمة انتخابية تشرشل، أن نظام عالمه المقبل محصور بينه وبين موسكو. وبالتالي لا بد من محاصرة العاصمة الحمراء بالإسلاميين شرقاً وبالديمقراطيين المسيحيين غرباً.

عاشت تلك المعادلة حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. بعدها، في حمأة النصر ونشوة العالم الإحادي القطبية، لم تتعب واشنطن نفسها في التفكير بنظام جديد. ظلت طيلة ثلاثة عقود متكلة على خلطة هجينة، بين عولمة لا علاقة لها بحقيقة مجتمعات العالمين العربي والإسلامي، وبين عصرنة سطحية، أو ما سمي يوماً «ماكدونالدية»، وبين بوليصة تأمين مخابراتية، اسمها أنظمة الجيوش وفخامة الجنرالات. ارتاحت واشنطن طويلاً إلى تلك المعادلة الهشة. حتى أنها عممتها على من يختلف معها عضوياً وبنيوياً. بدليل أنها فرضتها على لبنان، مع السوري ومن دونه…

حتى جاء صيف العام 2010. ولأسباب لم تتضح كلياً بعد، قررت واشنطن التخلي عن تلك المعادلة برمتها. وقع أوباما مذكرته السرية تلك في 26 آب، وانطلق ما سمي «الربيع العربي». الأكيد الوحيد في فهم ذلك الانقلاب الأميركي، أن ثمة في واشنطن من اقتنع بالنموذج الإردوغاني. واقتنع بإمكان وضرورة ومصلحة تعميمه. كان العنوان الظاهري إسلاماً معتدلاً وتنمية. أي توأمة الاعتراف باسرائيل مع اقتصاد السوق. لكن في العمق، كان العنوان مشروعاً ثنائياً مشتركاً بين ماكينة القرار الأميركي وبين الإخوان المسلمين. لكن مرة ثانية، وفجأة أيضاً، سقط المشروع. سقط في مصر وفي تونس وفي ليبيا. ثم انفجر في سوريا. وبدأ يترنح في مهده الأول، في تركيا.

على وقع هذا السقوط العظيم، بدأ المسار الأميركي الثاني: الاتفاق مع إيران. هنا، كان العنوان الظاهر نووياً. لكن العمق المضمر ظل مطروحاً للسؤال: هل قررت واشنطن التخلي عن تحالفها مع السنة والانتقال إلى تركيبة متنوعة تعددية أخرى؟

من دون أوهام حول سطحية الفهم الأميركي لمنطقتنا ومكوناتها، ومن دون تخرصات حول المصالح الحقيقية للدولة العظمى، الواضح أن واشنطن اليوم مربكة، ضائعة، مترددة، بين أي من خياراتها السابقة تعيد إنتاجه. هل تعيد نظام «ستابيليتي» العسكر من دون إخوان؟ أو تعيد إنتناج تحالف سني مع مكون آخر من دون «ربيع»؟ أو تذهب نحو تعددية شرق أوسطية على قاعدة سايكس بيكو جديد؟

البلبلة السياسية المنبثقة من لبس فكري، هي السمة الطاغية على سلوك واشنطن هذه الأيام. لكن في ختام بحث كيسنجر ما قد يضيء على مؤشر لحسم الاتجاه: إنها الانتخابات التركية. إذا عاد إردوغان، يكون رأي كيسنجر هو الراجح. أما إذا سقط أكثر وظهرت في الأفق ملامح صعود «سيسي تركي» فقد يكون رأي فريدمان أكثر رجحاناً. وعندها، كل حبوب الكبتاغون في الأرض لن تنفع مع نظام السعوديين أو تكفي!