إجراء الانتخابات البلدية طبيعي. لكن اللاطبيعي هو: كيف يسمح الوضع الأمني بها ولا يسمح بالانتخابات النيابية؟ لقد انفضحت حيثيات التمديد للمجلس النيابي، ولكن، لا المسؤولون يعذِّبون أنفسهم بالتبرير ولا أحد يسألهم أصلاً!
حتى اليوم، كان الانطباع السائد أنّ المطلوب انهيار النظام اللبناني، وأنّ ذلك يقتضي تعطيل كلّ شيء، حتى الانتخابات البلدية. ولكن، تبيَّن أنّ المطلوب هو فقط ضرب العناصر التي يتألف منها النظام دون سواها: رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي والحكومة. وأما إجراء الانتخابات البلدية فعلى العكس هو حيوي للتركيبة المنتظرة.
ويوحي هذا الأمر بأنّ الأمور مضبوطة في لبنان، وأنه ليس غارقاً في الفوضى، ويتخبّط بلا اتجاه. وعندما يكون هناك قرار بتسهيل أمرٍ ما، فإنه لا يتعثّر. والدليل هو أنّ القرار بتسهيل إجراء الانتخابات البلدية سلك طريقه، رغماً عن مصالح قوى عدة.
ويتردّد في بعض الأوساط أنّ مرجعيات دولية طلبت من المسؤولين اللبنانيين تسهيل إجراء الانتخابات البلدية، ولو بقي معطلاً انتخاب رئيس للجمهورية، لأنّ تجديد المجالس المحلية ضروري لتكريس اللامركزية الموسّعة التي يجب أن تكون الركيزة الأساس لإعادة رسم النظام اللبناني، بما يلائم الاتجاه الذي يذهب إليه الشرق الأوسط.
ولذلك، لوَّحت مؤسسات وصناديق دولية بحرمان لبنان من المساعدات والقروض إذا لم يستجب للاتجاه نحو دعم المجالس المحلية التي ستكون النواة لبناء اللامركزية المطلوبة.
فـ«القطبة المخفية» تكمن هنا: ممنوع إحياء النظام اللبناني القديم، ومطلوب اهتراء هذا النظام وتسهيل ما يخدم الاتجاه الجديد. ولأنّ إقرار مشروع انتخاب جديد يخدم تثبيت النظام اللبناني القائم حالياً، فإنّ السعي إلى قانون حالياً سيبقى متعثّراً وسيتأرجح في المجلس النيابي من دون أيّ أفق.
فعلى طاولة اللجان النيابية صراع على «السلّة المتكاملة»، أي قانون الانتخاب والتفاهم على رئيس للجمهورية وتركيبة الحكومة المقبلة. وفي ظلّ هذا الصراع، لا اتفاق ممكناً على شيء. وأساساً، لو لم يكن هناك قرار بالتعطيل، لما وقع الفراغ الرئاسي ولا التمديد النيابي ولا الشلل في الحكومة والمجلس.
المطلعون يقولون إنّ لبنان لن ينجو من العاصفة التي تضرب الشرق الأوسط والعالم العربي، وهو ينتظر خصوصاً ما سيؤول إليه مصير سوريا ليبدأ مصيره أيضاً بالتبلور. ومن المستحيل أن تسقط سوريا، بمكوّناتها القديمة، فيما يبقى لبنان الحالي كما هو.
ففي بداية «الربيع العربي»، كان يعتقد كثيرون أنّ حركة الانتفاضات الجارية ضدّ الأنظمة في العديد من البلدان لن تشمل لبنان لأنه ليس قائماً على نظام معيّن. وهذا صحيح لجهة أن لا نظام فردياً أو فئوياً يحكم لبنان بالقوة وخلافاً لإرادة فئات أخرى، كما هو واقع غالبية الأنظمة العربية الأخرى. لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ لبنان محكوم بنظام سياسي تأخَّر موعد تغييره.
واللافت هو أنّ النظام في لبنان يتعرّض اليوم لضغوط تغييرية من اتجاهين متناقضين:
1 – الولايات المتحدة والقوى الدولية ستسعى إلى تغيير النظام المركزي الحالي الذي بات «حزب الله» يتحكّم به في شكل فاعل.
2 – «حزب الله» يسعى إلى تكريس النظام الذي بات مطواعاً له أكثر من أيّ يوم مضى.
وتناقض هذين الاتجاهين تجلّى في موجة الحراك الشعبي التي قامت قبل فترة، في شكل مفاجئ، والتي قيل إنها تلقّت دعماً من قوى دولية كبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، قبل أن يحبطها دخول «حزب الله» على خط تسييس المطالب، فيما كان العنوان الذي يسعى الأميركيون إلى إعطائه للعملية التغييرية هو الإصلاح السياسي والاجتماعي غير الفئوي.
ولذلك، إنّ الذين قاموا بالحراك المدني لا ينتمون إلى فئة واحدة، وهم لم يطالبوا بإسقاط زعامة فئوية دون أخرى. وكان لافتاً ما تمتعوا به من دعم على مختلف المستويات. وقد جاءت سلسلة الفضائح التي تسارعت في العام الفائت، من سلامة الغذاء والدواء إلى النفايات وسواها، لتشكّل حافزاً إضافياً لـ»تثوير» الرأي العام وتسهيل التغيير… قبل أن يجري إحباط الحراك.
إذاً، هناك اقتناع بأنّ «النظام اللبناني» سيؤول إلى التغيير في النهاية بسبب الضغط الدولي ورغبات «حزب الله» في آن معاً. فالقوى الدولية تريد التغيير الديموقراطي الذي يقوم على ترسيخ أسس اللامركزية الموسّعة، أو الفدرالية. و»حزب الله» يخطط لتغيير حتمي سيكون ثمرة المؤتمر التأسيسي الذي لطالما نادى به.
وحتى القوى المسيحية في لبنان ستجد أنّ الانخراط في المؤتمر التأسيسي قد يكون الخيار الوحيد الباقي أمامها لتدارك ما بقي للمسيحيين في النظام.
ولذلك، ثمة مَن يعتقد أنّ الاتجاهين لتغيير النظام، اللذين يَظهران اليوم وكأنهما متناقضان، سيجدان السبيل للتقارب واقعياً، للأسباب الآتية:
1 – إنّ القتال الدائر في سوريا ليس في وارد الحسم في المدى المنظور. وليس في الأفق ما يوحي بإمكان سقوط أيٍّ من القوى المتصارعة، ولاسيما النظام. وهذا يعني أنّ «حزب الله» لن يخسر في سوريا، وسيبقى قوياً في لبنان. وهذا ما سيدفع الولايات المتحدة إلى التعاطي معه واقعياً في لبنان.
2 – تعتبر واشنطن أنّ لبنان هو البلد الشرق أوسطي الذي تريده تحت رعايتها المباشرة، وهي تريد ضمان مستقبله، ولن تسمح بانهياره ككيان. لكنّ طبيعة التفاهم الذي جرى بينها وبين طهران، استكمالاً للاتفاق على الملف النووي، تتيح توزيع الأدوار وتقاسم المهمات والمصالح في العديد من مناطق الشرق الأوسط، ومنها لبنان.
3 – إستتباعاً لهذا التفاهم الأميركي- الإيراني، ينظر كثيرون اليوم إلى الحملة المركَّزة التي تشنّها واشنطن على «الحزب» لجهة اعتباره «تنظيماً إرهابياً»، مع ما يشمله ذلك على صعيد العقوبات المالية. وقد جاءت أوراق بنما والتسريبات حول مسار المحاكمة في لاهاي لتثير المزيد من التعقيد.
وخلافاً للنظرة القائلة بأنّ التدابير الأميركية ستؤدي إلى تفجير العلاقة مع «الحزب»، وتالياً مع إيران، يعتقد المطلعون أنّ هذا المسار سينتهي بتكريس «فكّ اشتباك» بين الطرفين، تشارك فيه إيران، ويكون لبنان مسرحه. وهذا ما يتيح تفاهماً بين واشنطن و»الحزب» على الخيارات الاستراتيجية في لبنان، بدءاً بالنظام.
إذاً، هناك التقاء مرتقب في الخيارات بين واشنطن «والحزب»، على رغم مظاهر التصعيد بين الطرفين. والأرجح أنّ تكريس الاتجاه اللامركزي سيكون مناسباً للجميع، ولكن بعد تبلور الصورة في سوريا، أي أنّ المسألة باتت محصورة بالوقت فقط.
في الأشهر المقبلة، ما بين انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما ومجيء الخلف وإمساكه بالملفات في البيت الأبيض، هناك مسافة تزيد عن سنة. وعلى الأرجح، لن يقوم الأميركيون خلالها بخطوات كبيرة، لا في الشرق الأوسط ولا في سواه.
وحتى ذلك الوقت، سيستفيد الرئيس بشّار الأسد من الدعم الروسي والتضعضع العربي والخوف الغربي من «داعش» لتثبيت قدراته على الأرض والإمساك بأوراق قوية على طاولة المفاوضات.
وأما في لبنان، فالأرجح أن لا رئيس ولا حلول لقانون الانتخاب ولا تحريك حقيقياً للمؤسسات التشريعية والتنفيذية. وبعد ذلك، أي في الربيع المقبل، ستكون قد انتهت الولاية الممدّدة للمجلس النيابي. وعندئذٍ، سيظهر إذا كانت الساعة قد حانت لإبرام اتفاق بين الأميركيين والإيرانيين حول مستقبل النظام في لبنان أم إنّ هناك مزيداً من الانتظار!