لا يمكن فصل ما تشهده سوريا هذه الأيام على جبهة المواجهات العسكرية المحتدمة في شمالها والأنباء عن «مشاريع» توحيد فصائل معارضة في جنوبها، عمّا يحدث على الجبهة السياسية لجهة ما سُمّي «مبادرة الحلّ الروسي» أو مبادرة «حلب أوّلاََ» للموفد الدولي الخاص ستيفان دو ميستورا.
توازياً، لا يمكن النظر إلى استعار «حرب النفط» مع الانهيارات الاقتصادية المتوقّعة في غير مكان، عن حرب الخطابات والتصريحات السياسية المندلعة للأطراف المتضرّرة، ومحاولات التهويل السياسي عبر الحديث عن حضور هذا الطرف الإقليمي من اليمن إلى لبنان، أو عن مشاريع بناء «جبهات» ممانعة يختلط فيها السياسي بالمذهبي بالإديولوجي. كلّ ذلك يحدث وسط صمتٍ أميركي يصفُه البعض بـ»المشبوه»، فيما يتساءَل الجميع عن حقيقة موقف واشنطن ممّا يحصل.
وتتوقّع أوساط أميركية استمرارَ الغموض أشهراً طويلة، في وقتٍ يزداد الاقتناع رسوخاً بأنّ الأمر يتجاوز بكثير الردّ على متطلبات اللحظة الراهنة، نحو التكيّف مع مرحلة مديدة من المتغيّرات الجيوسياسية دخَلتها المنطقة، وقد تحتاج سنوات لمعرفة المآل الذي سترسو عليها الأوضاع فيها.
وترى تلك الأوساط أنّ التغييرات الميدانية في الشمال السوري قد تطيح بعدد من المشاريع أو حتى بالتكهّنات بأنّ الأمور متّجهة نحو حسمٍ ما قد ينجح في إنجازه النظام السوري وحلفاؤه، بالتوازي مع الجهود الروسية للإعلان عن «حالة» سياسية جديدة في سوريا.
وتتساءَل عن معنى الحديث عن هذا الحسم، وعمّا إذا كانت حظوظ التحرّكات الروسية وازنةً لتسديد ضربةٍ للقوى المتعارضة معها، فيما الواقع يُظهِر خلاف ذلك؟
فإذا كان مؤتمر دعم النازحين السوريين الذي عُقد الأسبوع الماضي لم يخرج إلّا ببضعةِ مليارات من الدولارات، فإنّ إعلان المفوّضية الأوروبية استعدادَها لاستقبال نحو 100 ألف لاجئ سوري يشير بلا لبسٍ إلى أنّ القرار مرتبط باستبعاد الوصول إلى حلٍّ قريب للأزمة السياسية، كائن مَن كان عرّابها. فمن يتوقّع حَلّاً لا يعلِن عن مشاريع لاستيعاب اللاجئين، بل يذهب في اتّجاه آخر يضغط من خلاله لإعادتهم إلى أرضهم.
وهذا ما ينطبق على إقرار الكونغرس الأميركي مشروعَ موازنة العام المقبل، الذي أقرّ البدءَ بتدريب المعارضة السورية المعتدلة وتسليحها، بدءاً من الربيع المقبل ولفترةٍ تمتدّ سنتين!
من نافلِ القول إنّ أيّاً من الاتّجاهات الحالية لا يوحي بتغييرات دراماتيكية في المشهد الإقليمي، في حين يؤكّد عددٌ كبير من المسؤولين الأميركيين، جَهاراً أو توارياً، أنّ ما يحدث ينزلق إلى التحوّل مستنقعاً عميقاً، فيما الأميركيون يتخفّفون شيئاً فشيئاً من أوزار حروبهم السابقة.
في نهاية العام الجاري، تُنهي الولايات المتحدة عملياً مهمّاتها القتالية في أفغانستان، بعدما نجحَت في تفكيك منشآتها العسكرية وسَحبت معظم آلتها الحربية من هذا البلد، من دون معوّقات فعلية وبأقلّ قدر من الضجيج، حيث «العالم» منشغلٌ بأحداث سوريا والعراق وأوكرانيا والحرب على «داعش» وغيرها.
حتى الممرّ الباكستاني الإلزامي لبعض خطوط الانسحاب الأميركي من أفغانستان، حافظَ على هدوئه، وحوّلَ أفغانستان مرّة أخرى مشكلة إقليمية، على دوَل الجوار أن تتشاركَ في إيجاد الحلول لها.
أوساط ديبلوماسية غربية وعربية في واشنطن ترى أنّ المرحلة المقبلة ستشهد صعوداً متجدّداً لبعض الملفات، في مقدّمها الملفّان اليمني والليبي. ففي يقينها أنّ ما تعتبرُه طهران نفوذاً إقليمياً لها في اليمن سيتحوّل شيئاً فشيئاً معضلةً ومأزقاً لا يمكن توقّع نتائجهما.
وفي ليبيا تتّجه الأمور نحو تصليب المواجهة مع الجماعات الإسلامية المقاتلة فيها، وتعزيز الدعم الذي تلقّته القوى المناهضة لها، وهو ما مكّنَها من قلب موازين القوى من بنغازي إلى أطراف طرابلس، بالتوازي مع التغيير السياسي الذي عبّرَت عنه قمّة الدوحة الأخيرة.
وتقول تلك الأوساط أخيراً «إنّ السياسة الأميركية، على علّاتها، تتّجه على ما يبدو نحو تحقيق مكاسب عدّة، بعدما أمكنَ ربط الوضعين العراقي والسوري بما تجيزه واشنطن أو ترفضه، خصوصاً أنّ دورَها بات مطلوباً وليس طالباً، خلافاً لكلّ ما يُشاع».