«ناتو آسيوي» بمواجهة الصين: أميركا تطلق حُمّى الغواصات النووية
تحالف «أوكوس» الذي جرى الإعلان عنه، أخيراً، بين واشنطن وكانبيرا ولندن، لا يوحي فقط بتصعيد الولايات المتحدة لتحرّكاتها ضدّ الصين، بل يؤشّر أيضاً إلى بداية حمّى الغواصات النووية، والتي تمهّد، إلى جانب معطيات أخرى، لحصار بحري ضدّ بكين قابل للتدحرج نحو صدام مباشر. وإن كان الهدف منه، أيضاً، التخفيف من حدّة المأزق الذي وقعت فيه واشنطن بانسحابها السريع من أفغانستان، والذي أدّى، بشكل غير مباشر، إلى اهتزاز ثقة الحلفاء بها، فقد أدّى، من جهة أخرى، إلى تعميق الهوّة عبر الأطلسي، لا سيّما أن الولايات المتحدة سدّدت لكمة جديدة إلى فرنسا، بعد دفعها كانبيرا إلى إلغاء صفقة الغوّاصات التي وقعتها مع باريس
مع الإعلان عن تحالف «أوكوس» الأمني بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، والذي ستحصل بموجبه أستراليا على 12 غواصة أميركية تعمل بالدفع النووي، تدخل استراتيجية الاحتواء الموجّهة ضدّ الصين طوراً جديداً وخطيراً. إشارة صحيفة «غلوبال تايمز» الرسمية الصينية، نقلاً عن مصادر عسكرية في بكين، إلى احتمال «تعرّض أستراليا لضربة نووية في حال اندلاع حرب نووية»، تعكس الارتفاع في مستوى التوتّر الذي سبّبه الإعلان المذكور. ستصبح أستراليا الدولة السابعة في العالم التي تملك هذا الصنف من الغواصات – الذي لم توافق الولايات المتحدة سابقاً على بيعه سوى إلى بريطانيا -، من دون حيازتها أسلحة نووية، على عكس الدول الستّ الأخرى، أي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند مؤخّراً. تمنح هذه الغواصات الدول التي تملك أسلحة نووية قدرة على توجيه ضربة ثانية في حال دخولها في نزاع نووي، ممّا يضاعف من شكوك بكين في احتمال تزويد كانبيرا بمثل هذه الأسلحة في المستقبل. توقيت الإعلان عن التحالف والصفقة، يزيد بدوره من منسوب التوتّر في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، إذ هو يأتي قبل حوالى أسبوع من القمة التي ستنعقد لبلدان «الكواد»، أي الرباعية التي تضمّ الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند، في الـ24 من الشهر الجاري في واشنطن، والتي ستدشّن تحوله إلى «ناتو آسيوي» في مقابل بكين. يمضي جو بايدن في سياسة «احتواء حار» تُحوّل شرق آسيا إلى مركز رئيس للصراعات الدولية. على الضفة الأخرى من الأطلسي، الذي زعم الرئيس الأميركي وفريقه سعيهم لـ»رأب الصدع» الذي عمّقه سلفه دونالد ترامب مع دولها، لم يتردّد وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في اتهام كانبيرا وواشنطن بـ»طعن بلده في الظهر»، عندما دفعت الثانية حليفها الأسترالي إلى إلغاء العقد الموقّع مع فرنسا، في عام 2016، لشراء 12 غواصة بدفع تقليدي، بقيمة 35 مليار يورو (41 مليار دولار). «صلة الرحم» بين الحلفاء الأنغلو – ساكسون الثلاثة، حدت بواشنطن ولندن وكانبيرا إلى تدبير الأمر في الخفاء، وإخطار باريس في اللحظات الأخيرة.
الاحتواء «الحار» بعد الانسحاب المذل
لا شكّ في أنّ أقطاب الإدارة الأميركية يأملون في أنّ الوقع الإعلامي – السياسي لقرارهم التصعيدي حيال الصين، سيمحو من أذهان الرأي العام الأميركي والعالمي مشاهد انسحاب جيشهم المذِل من أفغانستان. لا بدّ للإمبراطورية الأميركية من الشروع بعمل استعراضي للتعويض عمّا لحق بصورتها وسمعتها من ضرر، كما فعلت بعد الضربة التي تعرّض لها جنود بحريّتها في بيروت، في عام 1983، عندما غزت جزيرة غرانادا الصغيرة في أواخر العام نفسه، بحجّة وقوع انقلاب عسكري فيها. لسان حال هؤلاء هو: «سارعنا للانسحاب من أفغانستان للتفرّغ لمعركتنا المقبلة مع الصين، وما ترونه هو أول الغيث». غير أنّ هذا القول يحتوي على قدر كبير من الحقيقة بمعزل عن وظيفته السِجالية داخلياً وخارجياً. أولوية جو بايدن الفعلية هي المجابهة مع بكين، وبحزم أشدّ من جميع من سبقوه. كلامه عن وجود قضايا مشتركة تستوجب تعاوناً معها، كالأزمة البيئية وجائحة «كورونا»، يغدو مجرّد مناورات لفظية عندما يوسّع من انتشار قوّاته في جوارها البرّي والبحري، ويعزّز من تحالفاته العسكرية النوعية مع دول هذا الجوار للتصدّي لها. وعلى الرغم من اختلاف الظروف التاريخية، فإنّ ما تشهده منطقة آسيا – المحيط الهادئ من بناء لحلف عسكري رباعي، بات يلقب بـ»الناتو» الآسيوي، يذكّر بما حصل في أوروبا في بدايات الحرب الباردة، عندما أُسّس «الناتو» الأصلي.
يمضي بايدن بسياسة «احتواء حار» تُحوّل شرق آسيا إلى مركز رئيس للصراعات الدولية
مناورات عسكرية بحرية متكرّرة في بحر الصين الجنوبي بين أعضاء «الناتو» الجديد، صفقات سلاح ضخمة مع هؤلاء الأعضاء هي بمثابة مراكمة للقدرات التكنولوجية النوعية في محيطها ودفع للتعاون في ما بينهم، ولضمّ أعضاء جدد ككوريا الجنوبية، لنصل إلى ما أسمته «غلوبال تايمز» «حمّى الغواصات النووية»، هي جميعها مؤشّرات واضحة على استراتيجية احتواء محمومة تكون بمثابة حصار بحري قابل للتدحرج نحو صدام مباشر. معطى آخر جدير أن يؤخذ بالحسبان، هو احتمال مطالبة حلفاء آخرين للولايات المتحدة في هذه المنطقة بالحصول على غواصات نووية، ممّا سيعزّز من «دينامية الانتشار النووي» التي يخشاها الحريصون على الحؤول دون استخدام أسلحة نووية في معارك محتملة. هذا هو تقدير الموقف في بكين، التي بادرت منذ سنوات طويلة إلى تطوير أسطولها البحري وبناء أربع غواصات نووية قادرة على إطلاق صواريخ ذات رؤوس نووية أيضاً، وتسارع إلى بناء أخرى. وبما أنّ التموضع العسكري، وحشد القوات والقدرات، هو صنو المرحلة الأولى من الحرب في العلوم العسكرية، فإنّ توصيفها بـ»الباردة» أو بـ»منخفضة التوتّر» والخالية من المضامين الأيديولوجية مقارنة بسابقتها، لا يغيّر في شيء من واقع أنّ العالم أمام احتدام لمواجهة استراتيجية كبرى. قد لا تقع منازلة مباشرة، لكنّ المؤكد هو أنّ مفاعيل ذلك الاحتدام ستظهر بوضوح في مناطق أخرى، حيث تدور نزاعات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وخصومهم من جهة أخرى، والمراهنة على دعم صيني للأخيرين لن يعود ضرباً من خيال.
فرنسا الأطلسية «الخائبة»
تنفّس إيمانويل ماكرون ومعاونوه الصعداء، حاله حال العديد من المسؤولين الأوروبيين، عندما فاز بايدن في الانتخابات الأميركية. صدّق هؤلاء خطاب الرئيس الديموقراطي عن مركزية التحالف مع أوروبا في استراتيجيته الدولية الجديدة. تعرّضت هذه القناعة لاهتزاز عنيف بعد قرار الانسحاب من أفغانستان، الذي لم يسبقه تشاورٌ مع الحلفاء بل مجرّد إبلاغ لهم به. غير أنّ اللكمة العنيفة التي تعرّضت لها فرنسا، وليس مجرّد الصفعة، مع قيام واشنطن بحمل كانبيرا على إلغاء صفقة الغوّاصات التي وقعتها معها، «صفقة القرن» وفقاً لتعبير «لوموند»، يظهر قدر الازدراء الذي يكنّه صنّاع القرار في العاصمة الأميركية لها. المعلومات التي رشحت من باريس تفيد بأنّ المشاورات بين واشنطن ولندن وكانبيرا، الخاصّة بإنشاء تحالف «أوكوس» بدأت منذ أشهر عدّة، من دون معرفة باريس، وأنّ إخطارها بإلغاء صفقة الغواصات حصل في الأيام الأخيرة. وعندما استقبل ماكرون رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، في الإيليزيه، في بدايات حزيران الماضي، تحدث بحماسة شديدة عن الصفقة بين البلدين، خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعهما. وإضافة إلى الخسارة الفادحة الذي ألحقها هذا الإلغاء بالصناعات العسكرية الفرنسية، وبسمعتها على الصعيد الدولي، فإنّ تبعاتها بالنسبة لموقع وصورة فرنسا عالمياً كارثية بكلّ ما للكلمة من معنى. وزير خارجيّتها قارن سلوك بايدن بذلك الذي اعتمده ترامب، وعلت مجدداً الأصوات المطالبة بالعودة إلى اتّباع سياسة خارجية مستقلّة عن واشنطن والسعي لبناء دفاع أوروبي مشترك ومستقل. جوزيف بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ذهب في الاتجاه نفسه، عندما أكّد أنّ مقاربة الاتحاد للعلاقات مع الصين تنطلق من ضرورة التعاون بدلاً من المواجهة. غير أنّ المعيار للحكم على صدقية مثل هذه المواقف هو السياسات الفعلية المعتمدة والابتعاد، بالحد الأدنى، عن المشاركة في خطوات استفزازية تجاه بكين، على عكس ما قامت به فرنسا عندما شاركت في مناورات عسكرية بحرية مع دول الرباعية في بحر الصين في أيار الماضي.