يُنهي الرئيس الأميركي باراك أوباما سلسلة زياراته إلى المملكة العربية السعودية بالزيارة الرابعة وسط توتّر في العلاقات، في استعادةٍ لمشهد العام 1973 حين قطعَ الملك فيصل النفط عن الولايات المتحدة الأميركية، متسبّباً بمشكلات هائلة في الدورة الاقتصادية الأميركية قبل أن يسقط اغتيالاً بعد فترة وجيزة.
التوتّر الأميركي – السعودي كان قد بدأ مسارَه التصاعدي مع الاقتراب من موعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران ورفعِ العقوبات المفروضة عليها. لكنّ هذا الملف على أهمّيته كانت قد سبَقته ملفّات خلافية أخرى تتعلق بالوضع العراقي وتسليم الأميركيين السلطة العراقية بنحو أساسي إلى الأحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران، ومن ثمّ التقاعس الاميركي عن الدخول بفعالية أكبر ضد نظام الرئيس بشّار الأسد، ذلك أنّ المشاركة الاميركية، حسب الانتقادات التي وجّهها معارضو الأسد، اقتصرَت على المواقف الديبلوماسية المندّدة، وغابت عن الدعم الجدّي، ولا سيّما منه تزويد فصائل المعارضة الأسلحة النوعية وفي طليعتها صواريخ أرض – جو قادرة على تهديد الطائرات الحربية السوريّة، ما منحَ الجيش السوري أفضلية التفوّق في الميدان.
في المقابل، كانت الشكاوى الأميركية تتكاثر حول تمدّدِ التيارات المتطرّفة والتي ستعطي للحرب أبعاداً أخرى تطاوِل المصالح الغربية. كانت واشنطن موافقة على أنّ هذه الفصائل ذات الايديولوجيات الدينية، هي الأفعل في القتال لكنّها كانت تحذّر من مخاطرها على المجتمعات الغربية ومن خطورة وصول الأسلحة النوعية إليها.
واشتكت واشنطن من الدعم والرعاية اللذين تلقاهما هذه التنظيمات من خلال تسريبات إعلامية في وسائل إعلام أميركية. لكنّ الذروة جاءت مع حديث أوباما الطويل لمجلّة «ذي أتلانتيك» الأسبوعية، إذ لم يسبق لأيّ رئيس أميركي أن تناولَ السعودية بهذا المستوى من الانتقاد في تاريخ العلاقة المميّزة بين البلدين لـ 72 عاماً خَلت.
وفي هجومه الحاد، اتّهم أوباما بوضوح المملكة بدعم «داعش»، ودعاها في مكان آخر إلى استعادة تواصلِها مع إيران. ذلك أنّ الإدارة الاميركية كانت تشتكي على الدوام من عدم التعاون الخليجي معها لإنجاز تسوية سياسية في سوريا وفقَ موازين القوى على الأرض.
ولم يكن خافياً أنّ الفريق المناهض للأسد، وفي الطليعة السعودية، كان قد فقدَ ثقتَه بأوباما وسعى إلى اتّباع سياسة «عَلك» الوقت وانتظار وصول إدارة جديدة في واشنطن تضَع في أولوية نهجها استعادة التوازن المفقود في الشرق الأوسط مع إيران.
ولكنْ بدا مع الهجوم الذي يشنّه المرشّحون إلى الرئاسة الاميركية، وخصوصاً من الحزب الجمهوري، أنّ منطق التطرّف والتشدّد السياسي لدى هؤلاء يطاول السعودية وإيران على السواء، فكان لا بدّ من مراجعة الحسابات. وجاءت ورقة اعتداءات 11 أيلول واتّهام مسؤول سعودي والتلويح بالسَماح للمملكة بالشروع بهذه القضية بمثابة ذروة التأزّم في العلاقات، فلوّحت السعودية في المقابل بسحب الأصول والسندات المقدّرة بزهاء 750 مليار دولار.
باختصار، إنّ ذلك يعني التهديد بهزّ الاقتصاد الأميركي، أي إشهار سلاح الاقتصاد على غرار سلاح النفط عام 1973.
لكنّ أحدَ خبراء العلاقات الاميركية – السعودية والموجود في واشنطن، وإنْ كان يُقرّ بكلّ عناصر التأزّم هذه، إضافةً إلى مسائل أخرى لا تزال بعيدةً عن التداول، لا يجد تطابقاً بين عام 1973 والواقع الحالي. وهو يَعتقد أنّ لا واشنطن ولا الرياض ترغبان، أو حتى قادرتان، على الذهاب أبعد. إضافةً إلى أنّ الظروف تغيّرَت، فيومها كان استعمال سلاح النفط بمثابة المسّ بالمقدّسات الاستراتيجية في ظلّ نزاع الجبّارين.
المسألة كانت أبعد من وقوف الاميركيين امام محطات الوقود لتطاولَ محرّمات النزاع بين الجبّارين، أمّا اليوم فإنّ الخطوة أدنى بكثير من هذا المستوى، ولو أنّها في المبدأ تُعتبَر تلويحاً بالقدرة على ردّ الصفعة بأخرى.
ولأنّ هذا التأزّم محكوم بالتفاهم الإلزامي في نهاية المطاف، خصوصاً أن لا أحد قادر على أن يضمن سلوكاً أفضل من الإدارة المقبلة، كون الشرق الأوسط قد تغيّر، والمصالح الاميركية تبدّلت إلى حدٍّ ما، بادرَ الرئيس الاميركي للتحضير جيّداً لزيارته، فهو أرسَل وزير دفاعه ليستبقَ وصوله ممهّداً لنيّة واشنطن بتزويد «الحليف» السعودي أسلحةً نوعية، ولا سيّما منها التقنيات والأجهزة الإلكترونية المتطوّرة والقادرة على منحِ السعودية قدرةَ التحكّم عن بُعد بكلّ الأراضي والأجواء المحيطة بها، إضافةً إلى الجيل الجديد من الأسلحة القادرة على منحِ دول الخليج الحدَّ الأدنى من التوازن مع إيران القوّة التي تستعدّ للخروج من قمقم العقوبات.
والأهمّ أنّ أوباما، استبقَ أيضاً زيارته للسعودية بالقيام بزيارة نادرة إلى مقرّ المخابرات المركزية الاميركية، حيث اجتمع بالمسؤولين الكبار فيها
وتمّ تسريب أنّ الملف السوري شكّل أحد جوانب هذا اللقاء، ذلك أنّ أوباما المصمّم على تحقيق إنجاز ترتيب أسُس التسوية السياسية في سوريا سيَعمل على منح السعودية مساحةً من إرث «داعش» في مقابل تعاون كامل في الملفّ السوري. فالتطوّرات التي رافقَت الجولة الأخيرة من مفاوضات جنيف، أظهرَت أنّ الظروف المحيطة بهذا الملف لا تزال بحاجة الى بعض التعديلات قبل الشروع في النقاط الحسّاسة.
المبعوث الدولي ستيفان دو ميستورا كان قد لمسَ صعوبة المرحلة التي وصَل إليها، وهي التفاهم على مفهوم المرحلة الانتقالية. لذلك وبَعد انتهاء زيارته لدمشق قرّر الاستمرار في سياسة التفاوض من خلال فصلِ كلّ فريق داخل غرفة مغلقة منعاً للاحتكاك المباشر.
وعلى رغم ذلك، تعطّلت جولة التفاوض، فيما كانت المعارك تشتدّ في حلب في مقابل تحريك جبهة ريف اللاذقية. بالتأكيد ما كانت المجموعات المعارضة قادرة على شنّ هجومها في اللاذقية لولا الدعم التركي، وهو ما يَعني إشارة مبكرة إلى نيّة التحرّك في مواجهة هجوم حلب.
وخلافاً للانطباعات المتشائمة التي سادت خلال الأيام الماضية، فإنّ الأوساط الديبلوماسية الاميركية تبدو مقتنعةً بأن لا أحد قادر على عرقلة انطلاق قطار التسوية في سوريا، وأنّ واشنطن وموسكو متفاهمتان تماماً على ذلك ولو أنّ لكلّ من الدولتين أسلوبها للوصول إلى الأهداف المتّفَق عليها.
من هنا أهمّية الزيارة الرابعة والاخيرة لأوباما إلى السعودية، وبالتالي العمل على تدوير الزوايا الحادّة واحتواء النقاط الخلافية وتعديل الخطة الموضوعة من دون المساس بالنقاط الأساسية.
فواشنطن مصِرّة على تركيز المسار السوري لتنطلق بعدها في اتّجاه ملف التسويات مع إسرائيل. وهذه النقطة التي تثير صقورَ إسرائيل، ما دفعَ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى عقدِ جلسة لحكومته عند هضبة الجولان معلِناً ضمَّها.
والواضح أنّ نتنياهو أراد رميَ قراره في وجه الرئيس الاميركي ومستبقاً الإدارة الاميركية المقبلة، وهو يقول ضمناً إنّ قطار التسوية يجب أن يتوقّف في سوريا وإنّ إسرائيل متمسّكة بالواقع الحالي.
الرد على القرار الإسرائيلي تصاعدَ من الاتحاد الاوروبي الذي رفضَ خطوةَ نتنياهو، ومن وزير الخارجية الأميركية. لكنّ الرد الأعنف جاء من نائب الرئيس الاميركي وبتعابير قاسية. وكلّ ذلك يعني أنّ الطريق أمام التفاهم الأميركي – الروسي ليس ورديّاً، فإسرائيل تكشّر عن أنيابها أيضاً. وفي النهاية نحن في الشرق الأوسط المنطقة الأكثر اضطراباً في العالم.