في خلال أقل من شهر، فُتحت ثلاثة ملفات كبرى في سوريا، وعلى نحوٍ شابَه كثيرٌ من عنصر المفاجأة:
أ- ملف حلب انطلاقاً من موافقة الروس على الانخراط في تطبيقات نظرية إيرانية – سورية، تفيد أنّ استعادة حلب للدولة السورية سيحسم الحرب وسيمكن من الإمساك بناصية العملية السياسية لحلّ الازمة السورية.
ب – ملف الأكراد الذي بدأت إرهاصاته بتقديم واشنطن غطاءً سياسياً وجوِّياً مكّن الإتحاد الديموقراطي الكردي (PYD ) من التقدم في اتجاه مدينتي منبج و«الباب» الواقعتين غرب خط الفرات الذي حدّدته أنقرة منذ بدء الازمة السورية خطاً أحمر للكرد ممنوع عليهم تجاوزه.
ثمّ جاءت احداث الحسكة لترسم معادلة جديدة أوحت أنّ كرد سوريا بدأوا يحصلون على مكاسب سياسية لمشروعهم الانفصالي الاداري في سوريا كثمن لخدماتهم العسكرية التي يقدمونها للمصالح الأميركية في الميدان السوري.
ج – ملف عودة تركيا بقوة الى واجهة الحدث السوري. وهو أمر حمل مفاجأتين اثنتين؛ الاولى تأتّت من أنّ دخول تركيا الى جرابلس حصل في غمرة شيوع اعتقاد بأنّ الرئيس رجب طيب أردوغان وبعد الانقلاب الفاشل ضده، سينشغل بوضعه الداخلي وسيضطر الى تجرّع كأس تحدي الأكراد لخطوطه الحمر في سوريا، خصوصاً أنّ واشنطن المتّهمة بتقديم دعم ما للانقلابيين ومستضيفة فتح الله غولن، هي ذاتها التي قدّمت الدعم الجوّي لخطوة الـPYD للتمدّد العسكري في منطقة غرب الفرات.
المفاجأة الثانية تأتّت نتيجة ظهور أنّ علاقة واشنطن بأنقرة قابلة لإعادة إصلاحها بسرعة، وهذا ما أظهرته احداث الساعات الماضية حيث حصلت زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بادين لأنقرة والذي اعتذر عن تأخر مواساة واشنطن لأردوغان في مناسبة تعرضه لانقلاب، وأيضاً إبلاغ كيري نظيرَه التركي أنّ واشنطن تحترم الخط الاحمر التركي في سوريا وستخرج الـPYD من غرب الفرات بمثلما أدخلته، وأيضاً وأيضاً تقديم التحالف الدولي الدعم الجوّي والسياسي لتقدم تركيا نحو جرابلس!
يشي الموقف الأميركي تجاه النزاع الكردي ـ التركي بأنّ واشنطن مارست خلال ثلاثة أسابيع الشيء ونقيضه؛ فهي قادت الأكراد الى خرق الخط الأحمر التركي في سوريا؛ والآن تضغط عليهم لاحترامه وتربط ذلك باستمرار مساعداتها لهم. ويدشن بايدن صفحة تعاون جديدة مع أردوغان في سوريا انطلاقاً من تغطية هجومه على جرابلس ودعم خطوطه الحمر السورية.
واضحٌ أنّ واشنطن تُمارس نوعاً من «الاحتواء المزدوج» للكرد وللأتراك. وأهدافها من ذلك متعدّدة، وأبرزها إنشاء معادلة تخدم استمرارَ اعتمادها على الأكراد كجيش برّي لها في سوريا، وخصوصاً في معركتها المقبلة لإخراج تنظيم «داعش» من الرقّة الواقعة شمال خط الفرات، وايضاً إبقاء تركيا في مربع حلف «الناتو» وتوجّهاته، وكسر استثمار إيران وموسكو في خوفها من وجود مشروع سرّي أميركي لمصلحة أكراد سوريا.
وبموجب تطبيقات الاحتواء المزدوج للأكراد وتركيا، أعادت واشنطن هندسة الميدان في شمال سوريا؛ حيث يعود الـPYD الى مربّع شرق الفرات بضمانات أميركية؛ فيما تركيا تشحن نفوذها بغطاء التحالف الدولي في مناطق غربه المتاخمة لحدودها.
أما حلب عاصمة شمال سوريا وأم معاركه الاقليمية والدولية فتدخل في «ستاتيكو استنزافي» للمحور الروسي والإيراني والسوري، مصحوباً بحملة تشهير دولية مخططة أميركياً، تزعم بوجود جرائم حرب تقليدية وحتى كيماوية يرتكبها فيها الروس أو يغطونها!
لقد اكتشف الروس خلال الساعات الـ ٤٨ الأخيرة أنّ الإجابة الثمينة التي كانوا يبحثون عنها لسؤالهم منذ حصارهم حلب، قد وجدوها الآن. تساءل الروس حينها عن «الخطة ب» التي ستردّ بها واشنطن على تجرّؤ موسكو على الذهاب مع طهران الى حصار حلب من خارج تفاهم بوتين ـ أوباما حول سوريا؟.
وبحسب معلوماتهم حينها فإنّ كلّا من «البنتاغون» والـ«سي. آي. إيه» يصران على الرد بإجراءٍ ميداني في سوريا يعيد التوازن الى ميدانها بعدما كسرته موسكو وطهران في حلب. أطلق الروس حينها على هذا الرد تسمية اصطلاحية هي «الخطة ب الاميركية» للرد على حلب.
حالياً تكتشف موسكو أنّ جوهر هذه الخطة هو الذهاب الى إنشاء «احتواء مزدوج لأقرة والـPYD، وإعادة هندسة الميدان في شمال شرق سوريا على نحو يجعل اللاعبَين الكردي والتركي يعودان الى حضن واشنطن، فيما يتم عزل الروسي والإيراني فيه داخل «سجن حلب» العصيّة على الحسم العسكري والمفتوحة على شهيّة استنزاف المتقاتلين فيها وعليها!
هل تنجح الخطة ب الأميركية؟ وفي المقابل هل يملك الروس وطهران «خطة ب» للرد على الرد الأميركي؟
الاجابات على هذه الأسئلة ستشكل مادة أحداث الميدان السوري السياسي والعسكري خلال الفترة المنظورة.
لقد اعتقد الروس بداية أنّ انقلاب الأكراد في الحسكة على النظام، هو كلّ الرد الأميركي على حصار حلب، وسارعوا الى تطويقه، وقدّموا تنازلات في سبيل ذلك للـPYD على حساب النظام، لكنّ موسكو تكتشف الآن أنّ واشنطن تذهب الى تعديلات كبيرة في ميدان شمال سوريا ضمنها ربما إنشاء منطقة امنية حدودية مع تركيا داخل سوريا بحماية مشترَكة يؤمّنها التحالف الدولي وأنقرة. لم تتأخر موسكو ولا دمشق عن إعلان إدانتهما للتدخّل التركي في جرابلس، واعتبرتاه خرقاً للسيادة السورية ومؤكدتين أنّ أيّ تدخّل يجب أن يتمّ بالتنسيق مع الدولة السورية.
وهذا الموقف يريد إبداء رفضهما المبكر لإمكانية إقدام أنقرة بدعم أميركي هذه المرة على تطوير تدخّلها في جرابلس في اتجاه طرح فكرة المنطقة الأمنية التركية داخل سوريا.
أما تركيا، فهي حالياً تقف امام خيارين اثنين؛ اما مقايضة تدخّلها في جرابلس بتنفيذ واشنطن وعدها بإعادة الـPYD الى شرق الفرات وانهاء حلم كردستان الغربية، سواءٌ الإدارية او السياسية؛ او تقدمها نحو منبج لتفعل ذلك بنفسها في حال لاحظت خديعة أميركية؛ ذلك أنّ بقاءها في جرابلس، سواء داخل المدينة أو عند معبرها، لا يقدم شيئاً سياسياً وأمنياً لتركيا، لأنّ طرق الوصول من الحدود التركية مع سوريا الى العمق السوري في الشمال، تظلّ في معظمها اما بيد الأكراد او الجيش السوري؛ وعليه سيكون حتمياً على تركيا الذهاب من جرابلس الى منبج لتأمين حضور لها في ميدان شمال سوريا يكون من النوع الذي يُحصِّل لها نتائج سياسية، وذلك على مستويَين: إبقاء نفوذها في الأزمة السورية، وضمانات ملموسة لأمنها في مواجهة أكراد سوريا.