خلال آذار الماضي كان مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب دانيال غلايزر، في بيروت، وعَقد لقاءات ركّزت على مكافحة تبييض الأموال عبر المصارف اللبنانية لمصلحة «داعش»، وأكّد له حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن لا أموال لـ«داعش» في المصارف المالية. ويُنتظر أن يعود غلايزر إلى بيروت خلال فترة قريبة جداً (يقال هذا الأسبوع) إلى لبنان ليتابع ملفّاً آخر على صلة بما يسمّيه تطبيقات قانون الكونغرس الأميركي حول أموال «حزب الله».
وفي المعلومات أنّ غلايزر سيثير في بيروت نقاطاً تقنية تضمن تنفيذ المصارف اللبنانية – وضمنها مصرف لبنان المركزي خصوصاً – تطبيقات القوانين الاميركية الصادرة عن الكونغرس الاميركي، إضافة الى وضع آلية للتأكد من تنفيذها بصرامة وحَرفياً.
ويبدي الاميركيون رغبة في أن يكون لهم حضور عملي داخل هذه الآلية، عبر انتدابهم بعض موظفي وزارة الخزانة الاميركية ليشاركوا في مراقبة ادارة المصارف اللبنانية لملف تنفيذ قرارات الكونغرس لتجفيف مصادر تمويل حزب الله. وكان حاكم مصرف لبنان ابدى استعداد المصارف اللبنانية للتعاون الى اقصى الحدود مع أي شأن له صلة بهذا الملف.
وأبعد من زيارة غلايزر المرتقبة قريباً لبيروت ذات المضمون التقني الذي يعكس إصرار واشنطن على المضيّ بعيداً في حربها الناعمة ضد حزب الله، فإنّ مراقبين لمسار تفاعل هذا الملف يتوقّفون عند الملاحظات الأساسية الآتية:
الملاحظة الأولى أنّه بالتزامن مع نشر قرارات الكونغرس أخيراً حول مكافحة تمويل حزب الله وإدارج أشخاص ومؤسسات جديدة على لائحة الحظر الاميركي، فإنّ منظمة الأمن والتعاون الاوروبية تحرّكت ايضاً بنحوٍ ملفِت لتطالب لبنان باتّباع شفافية مطلقة بخصوص الحسابات المصرفية والإجراءات الضريبية الموجودة في مصارفه.
وبحسب معلومات لـ«الجمهورية»، فإنّ التعليل الذي تقدّمه مصادر في منظمة الأمن والتعاون الاوروبية لإصدارها هذه المطالبة، هو أنّ لبنان أصبح اليوم، وفقَ تصنيفها، يقترب من أن يصبح «جنّة ضريبية» مثل بناما والجزر العذراء البريطانية، ألخ… وهذه «الجنّات الضريبية» تتّخذ في حقّها إجراءات عقابية، أهمّها منع التعامل المصرفي معها.
وتفصل هذه المصادر بأنّ لبنان يقف اليوم في «المنطقة الرمادية»، وذلك بين واقعِه كبلد مطابق للمواصفات الضريبية والمالية المطلوبة دولياً، وبين واقع أنّه بدأ يتحوّل سريعاً إلى «جنّة ضريبية»، وعليه، فإنّ تحرّك المنظمة الاوروبية في هذه اللحظة يأتي لقمعِ مسار انزلاق لبنان الى حالة تحتّم تصنيفه بأنه تحوّلَ فعلاً «جنّة ضريبية» ما يحتّم اتّخاذ قرار دولي بمنع التعامل المصرفي معه.
والواقع انّ اللبنانيين المقيمين في اوروبا، لمسوا أخيراً حالة تشَدّد حيال مسألة تحويل ايّ مبالغ مالية الى لبنان، حيث اصبَح إجراء تحويل حتى ألف يورو يتطلب نوعاً مِن التحقيق الموسّع وإثبات أسباب تحويله ومصدره والجهة المحوّل إليها وإثباتات سكن في لبنان، ألخ.. وتجدر الإشارة في هذا السياق الى انّ لدى منظمة الأمن والتعاون الاوروبية معلومات تفيد أنّ مئات ملايين الدولارات تخسرها خزانات الدول الاوروبية سنوياً جرّاء التهرّب الضريبي منها الى لبنان، والأمر تفيد به وزارة الخزانة الاميركية.
وعليه يصبح شعار تنبيه لبنان من تحوّله جنّة ضريبية موازياً من حيث اهمّيته من منظار دولي لشعار تنبيهه من تغطية حركة أموال الإرهاب، وبضمنها حسب قانون الكونغرس الاميركي الاخير أموال حزب الله.
ـ الملاحظة الثانية، أنّ الاوروبيين يريدون الدخول الى كلّ سجلّات المودعين في المصارف اللبنانية. وهذا الأمر يتمّ حصراً عبر السَماح لهم بـ«الاطّلاع الجاري» على المعطيات الموجودة في «قاعدة البيانات» المحفوظة في «مركزية المخاطر في مصرف لبنان».
ومعروف في هذا السياق أنّ جميع الاشخاص المعنويين والشركات التي تستدين من البنوك اللبنانية موجودة أسماؤهم في قاعدة بيانات يطلق عليها اسم «مركزية المخاطر في مصرف لبنان». وما يريده الاوروبيون هو التزام لبنان بحقّهم في الدخول إليها، وإعطائهم الميزات نفسها المعطاة للأميركيين على مستوى عدم تطبيق موجبات السرّية المصرفية اللبنانية عليهم.
الملاحظة الثالثة، وهي تلخيص عملي للملاحظتين الآنفتين، وتفيد أنّ السرّية المصرفية في لبنان ستتحوّل نتيجة اضطرار لبنان للالتزام بمطالب منظمة الأمن والتعاون الاوروبية من جهة والخزانة الاميركية من جهة ثانية، إلى «سرّية مصرفية محلية»، لأنّ القطاع المصرفي اللبناني لن يكون في إمكانه رفض طلبَيهما منه بالكشف لهما عن قائمة قاعدة بيانات مودِعيه الموجودة في «مركزية المخاطر في مصرف لبنان»، خصوصاً أنّهما يطرحانها تحت مبرّرَي سعيهما للتأكّد من أنّ القطاع المصرفي اللبناني لا يساهم في تغطية «حركة أموال حزب الله» وفي تحويل لبنان «جنّة ضريبية» .
وبتفصيل إضافي، تؤكد المصادر عينها، أنّ لبنان عالق اليوم بين مطالب اميركية من نظامه المصرفي، توازيها توقيتاً وأهدافاً مطالب اوروبية، وكلّها تتقاطع عند الطلب من لبنان رفعَ السرية المصرفية ليصبح في إمكان الاوروبيين والاميركيين التأكّد من أن لا يتحول جنّة ضريبية وبلداً يغطي حركة أموال حزب الله عبر مصارفه ومؤسسات فيه.
وفي محصّلة أساسية لهذا الواقع يصبح لبنان في هذه اللحظة امام خيار من اثنين صعبَين: إمّا رفض الكشف عن قاعدة بيانات مودعيه في مركزية المخاطر في مصرفه المركزي امام الاوروبيين والاميركيين، وهذا ما سيعرّضه لعقاب وقف التعامل المصرفي الدولي معه وإنزال عقوبات مالية اميركية ضدّه، وإمّا ذهابه في الخيار الثاني وهو المرجّح اعتماده بقوّة، ومفاده الانصياع لهذه المطالب الاميركية والاوروبية، وسينتج من ذلك أنّ مفعول تطبيقات السرّية المصرفية اللبنانية ستصبح مقتصرة على داخل لبنان، بمعنى آخر ستصبح «سرّية مصرفية محلّية».
والأمر الأبعد أثراً على هذا الصعيد، بحسب مراقبين، هو انّ لبنان ذاهب حتماً الى تغييرات بنيوية وجوهرية على مستوى دوره المالي في المنطقة والعالم، فبات مشكوكاً توقّع أنّه سيستمر حافظةً مالية للأموال الساعية عبر العالم والمنطقة لنيل سرية مصرفية، وأيضاً باتت هناك شكوك في توقّع استمرار استقرار معادلة النأي بقطاعه المصرفي عن أحداث المنطقة السياسية. فحزمة الإجراءات المالية الاميركية الاخيرة ضد حزب الله توسّعت لتطاول مطاردةَ حركة اموال مؤسسات حيوية تابعة له كمؤسسة «الشهيد» ومصرف «القرض الحسن» (ألخ..)،
ما يؤدي ليس فقط الى إخراج الحزب من النظام المصرفي اللبناني، وهو أمر يمكن للحزب احتماله، بل يؤدي أيضاً إلى أمر من المشكوك أن يتحمّله الحزب، وهو حصار نظام حزب الله المالي نفسه، وهو نظام ذو وظيفة وجودية قوامُها علاقة تبادل بين الحزب وقاعدته الاجتماعية الأوسع: فمقابل أنّ الحزب يمدّ عبر مؤسساته التجارية والمالية والخيرية قاعدته الاجتماعية الأوسع بسُبل الدعم عبر قروض وهبات ماليّة صغيرة، ولكنّها تعَدّ بمئات الألوف، فأنّه يحقّق (أي الحزب) ضمانَ بقاء قاعدته الاجتماعية مبادلة له بالدعم السياسي وإبداء إرادة الصمود وراء خياراته الاساسية.
ومع بروز التطوّر الأخير داخل الحرب الاميركية الناعمة على حزب الله، والذي تمثّلَ بعدم الاكتفاء بإخراجه من النظام المالي اللبناني الرسمي، بل باقتحام نظام الحزب المالي الاجتماعي نفسه، فإنّ ذلك يشي بأنّ جبهة واشنطن – حزب الله الناعمة، ذاهبة في اتّجاه تطوّرات ستترك انعكاسات سلبية على مجمل معادلة الاستقرار السياسي والاجتماعي النسبي الموجودة حالياً في لبنان.