لم تحمل زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري والوفد المرافق الى واشنطن أيّ معطى جديد. وخلال اللقاءات التي جرت كان الطرف اللبناني متحدِّثاً معظم الوقت فيما الطرف الأميركي يُردّد المواقف الأميركية المعروفة والتي تطبع الخطاب الرسمي الأميركي.
وحده الرئيس الاميركي دونالد ترامب المحاصر بمشاكله وأزماته الداخلية الخطيرة، رفع سقف الهجوم في اتجاه «حزب الله»، ولكن عبر خطاب مكتوب، وهو ما فسّرته اوساط ديبلوماسية بإلزام الرئيس بالسقف الموضوع وعدم تركه على عفويته واطلاق المواقف غير المدروسة، لأنّ المطلوب رفع الصوت في وجه «حزب الله» من دون الالتزام بمواقف عملية وخطوات غير مطروحة في هذه المرحلة.
وقيل إنّ كلمة ترامب، شارك في كتابتها خبراء ومتخصّصون اضافة الى وزير الدفاع جيمس ماتيس المسؤول الاول عن رسم سياسة بلاده في الشرق الاوسط ولا سيما منها العراق وسوريا ولبنان في هذه المرحلة بالذات.
وزاد نفوذ وزارة الدفاع وتأثيرها مع تراجع دور المخابرات المركزية الاميركية بسبب إقفال برنامج تدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة بعد اعلان فشله.
ومعروف أنّ ماتيس ينادي بالحدّ من تفاقم نفوذ ايران في الشرق الاوسط ولكن من دون التورّط في مواجهات مكلفة معها، وهو يدرك جيداً القدرات الايرانية في المنطقة من خلال خبرته الطويلة والغنية إبان خدمته في العراق، لا بل إنّ الفريق الابرز في الادارة الاميركية يميل الى الاستفادة من التأثير الايراني لحماية المصالح الاميركية، ولكن مع وضع ضوابط تمنع السيطرة الايرانية المطلقة بالتعاون مع روسيا.
وفي الوقت الذي كان فيه الوفد اللبناني يجول في واشنطن، كانت أجهزة الرصد والمراقبة العسكرية الاميركية تتابع عن كثب العملية العسكرية التي نفّذها «حزب الله» في جرود عرسال.
ولم تكن واشنطن وحدها مَن تقوم بذلك، بل أيضاً روسيا وفرنسا من خلال الاقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع التي تزدحم بها سماء المنطقة.
وقبيل انطلاق العملية العسكرية، كانت التقديرات العسكرية الغربية تتحدث عن فترة لا تقل عن شهر في حد أدنى لإنهائها، وأنّ الخسائر ستكون كبيرة لأسباب عدة ابرزها الطبيعة الصخرية الصعبة للمنطقة، وتلالها الاستراتيجية، اضافة الى نوعية المقاتلين الذين من المفترض انهم مستعدون للقتال حتى الموت.
ومع انتهاء المعركة خلال أيام معدودة، غلبت الدهشة على التقييمات العسكرية الغربية خصوصاً لجهة الخطط التكتيكية العسكرية وقدرات مقاتلي «حزب الله» المصحوبة بانسحام قتالي ورشاقة عسكرية في التحرك رغم الطبيعة الصخرية الصعبة، لدرجة أنّ صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية نقلت عن مسؤولين عسكريين اميركيين أنه لا بد من الاعتراف بقوة «حزب الله» الكبيرة والقادرة على التأثير في مصير الشرق الاوسط في شكل مواز لتأثير روسيا وبقية الاطراف.
وهذا الكلام قد يخفي في طياته تلميحاً لإمكانية حصول تقاطع عسكري مستقبلاً بين الاميركيين و»حزب الله» ضمن اعتبارات وضوابط معيّنة.
فمثلاً معركة جرود عرسال تُظهر في أحد جوانبها تقاطعاً بين واشنطن و»حزب الله» عنوانه إنهاء حضور التيارات المتطرّفة في تلك البقعة، وهذا التقاطع حصل بطريقة غير مباشرة وتحديداً من خلال الجيش اللبناني الذي تولّى الإشراف على المرحلة الاولى، على أن يخوض المرحلة الثانية ضد «داعش» ولو بالتنسيق مع «حزب الله» في بعض الجوانب.
وهذا التقاطع الاميركي مع «حزب الله» ليس الأوّل من نوعه، ففي مراحل مطاردة الخلايا الارهابية في لبنان تولّى الجيش اللبناني تلقي المعلومات الامنية من المخابرات الاميركية والتنسيق مع «حزب الله» ما أدّى الى نتائج ممتازة، اضف الى ذلك الالتزام المطلق بقرارات الامم المتحدة حيال جنوب لبنان.
إشارات لافتة
وسُجّلت إشارات، منها رفع العلم اللبناني فوق علم «حزب الله» عند التلال المحرّرة في جرود عرسال، واستكمال البرامج الفنّية لمهرجانات بعلبك في وقت كانت المعارك تدور بشراسة وبعلبك تشهد تشييع ثلاثة من عناصر «حزب الله» سقطوا في المعارك. وكان لافتاً أنّ هذا الوضع الحساس لم يؤثر على اصوات الموسيقى التي كانت تصدح من أدراج هيكل بعلبك.
كل ذلك يفسّر الكلمة المكتوبة بعناية لترامب، ولو أنها تضمّنت مواقف اعلامية لا قرارات عملية. رغم ذلك، فإنّ «القنبلة الصوتية» التي تنوي الادارة الاميركية رميها في ايلول بحاجة لقرارات تُحدث جلبة من دون مفعول جدي، مع الاشارة الى زيارة يجري التحضير لها للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الى واشنطن في ايلول المقبل، تأتي استكمالاً لزيارة أولى حصلت منذ نحو سنتين وكان طابعها امنياً- سياسياً بامتياز، فيما سيزور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون طهران بعد مشاركته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك وبعد زيارة فرنسا.
حماوة على الساحة اللبنانية
وهنالك جانب آخر «للقنابل الصوتية» الاميركية، يتعلق بارتفاع قريب للحماوة السعودية- الإيرانية والتي ستشمل الساحة اللبنانية بعد هدنة طويلة. وأوّل المؤشرات جاء مع بيان كتلة «المستقبل» برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة وبالاتفاق مع الرئيس سعد الحريري.
لكنّ الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء ستكون حامية لتدشين مرحلة اشتباك سياسي ولو تحت عناوين مختلفة. العنوان الاول سيكون ملف بواخر الكهرباء والصراع سيكون عنيفاً، والثاني سيكون حول ملف الانتخابات الفرعية.
صحيح أنّ هذه العناوين ذات طابع داخلي لكن انفتاح الافق على تحريك المناخ السياسي سيسمح بأخذ المواجهات الى حماوة مرتفعة.
وخلال الايام الماضية، ارسلت السعودية رسالة انزعاج الى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع حول موقفه من معركة جرود عرسال ممّا اضطره لاحقا الى التراجع على طريقته.
ففي السعودية صواريخ باليستية للحوثيين عادت لتستهدف العمق السعودي، ما يعني أنّ الجبهة السياسية في لبنان لا بد أن تواكب الحماوة العسكرية.