كان من الطبيعي ان تهدأ الأمور وتتوقف الحملات الإعلامية بعد انتهاء العملية الإنتخابية، غير ان البعض يصدق كما في كل مرة العناوين التي تطرح خلال الحملات الإنتخابية والتي تهدف الى اللعب على الغرائز ورفع مستوى التجييش، إلّا ان الواقعية السياسية هي التي تعود وتظهر بعد صدور النتائج. فإثارة القواعد الشعبية شيء وحسابات المصالح للفرقاء السياسيين شيء آخر مختلف كلياً.
وفي إطار غستكشاف المواقف وتحضير الظروف قبل ولوج ملف تشكيل الحكومة الصعب والمعقّد، والذي سيعيد مناخ الحماوة السياسية، زار رئيس المجلس النيابي نبيه بري رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والذي لاقاه بتحية إيجابية وودّية للغاية.
كذلك كانت الزيارة الأولى لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الى رئيس الحكومة سعد الحريري بعد أزمة إستقالته من السعودية، زيارة لم تحمل مضامين مهمة، ولو أنها شكّلت خطوة أساسية لكسر حاجز الجليد الذي كان يفصل بينهما.
لكن ما يزال من المبكر الحديث عن فتح الملف الشائك والمتعلق بتشكيل الحكومة، والذي لن يحصل قبل الإنتهاء من التجديد للرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس النيابي ونائبه، إضافة الى أعضاء مكتب المجلس.
كذلك، هناك استحقاق تسمية رئيس الحكومة المقبل، والذي سيكون سعد الحريري قبل أن تنطلق المشاورات الجدية للتركيبة الحكومية المقبلة، إذ أن بعض القوى سيشترط على الرئيس الحريري الإلتزام المسبق بحصته مقابل تسميته، وقيل على سبيل المثال إن جعجع سيشترط حصول كتلته على حقائب أساسية، وإلّا فإنه قد يعمد لتسمية الرئيس نجيب ميقاتي.
والأجواء الإيجابية السائدة الآن لا تحجب العقبات الأساسية التي ستدور حولها صراعات قوية بعد فترة قصيرة، وهي:
1- حقيبة وزارة المال، والتي لن يتخلى عنها الرئيس برّي، ويعتقد كثيرون أن إعلان برّي تمسّكه بالوزير علي حسن خليل لوزارة المال قد يكون من باب تحصين شرطه بالإحتفاظ بوزارة المال لاحقاً خلال المفاوضات. ما يعني أنه قد يتنازل عن إسم مرشحه، ولكنه قطعاً لن يتنازل وسيبقي وزارة المال من حصته.
2- تطعيم الحصة السنّية من وزراء من خارج تيار المستقبل، وربما من المعارضين للحريري. فالإنتخابات النيابية عزّزت وصول شخصيات سنّية عديدة لا يمكن تجاوز حضورها وشرعيتها الشعبية على الساحة السنّية.
3- تمثيل المسيحيّين من خارج نطاق «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية». فهؤلاء يمثلون نسبة كبيرة من المقاعد المسيحية ما يدفع لمنحهم تمثيلاً وزارياً في الحكومة المقبلة.
4- بعد التفاهم على البنود الثلاثة التي سبقت، هناك معضلة التفاهم حول كيفية توزيع الحقائب، خصوصاً بعدما أضحت حقيبتا الطاقة والإتصالات من الحقائب السيادية.
وفور إعلان نتائج الإنتخابات، عاد خط التواصل بين رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل و»حزب الله» الى نشاطه، وذلك من خلال لقاءات بين باسيل ووفيق صفا قد تتطوّر لاحقاً.
وبخلاف ما يجري تداوله، فإن البيان الوزاري لن يكون إحدى النقاط الشائكة المتوقعة، فالصيغة التي اعتمدت في البيانات الحكومية السابقة تبقى قاتمة، وحتى ولو أراد بعض الأطراف إجراء تحديث للصيغة المتعلقة بالمقاومة، فهذا قابل للحصول، ولكن ضمن الروحية المعمول بها، والتي يوافق عليها الجميع. ولكن «حزب الله» يتعمّد الغموض وعدم إعلان ما يريد في انتظار الدخول في مرحلة المفاوضات الجدّية. فـ»الحزب» يعتبر أنه حقّق جميع الأهداف السياسية التي كان حدّدها للمعركة النيابية.
والواضح أن «ضماناته» المطلوبة قد نجح بإنجازها، فيما هو يتطلّع الى المشاركة والإنخراط في المعركة الإقتصادية ومكافحة الفساد من خلال الحكومة، وعبر مشاركة أوسع، بغض النظر عن الحقائب التي سيتولّاها وزراؤه. فأولويته الحكومية هي الرقابة والمشاركة في كلّ الملفات، وعلى أساس العودة الى مجلس الوزراء قبل اتخاذ أي قرار.
هذا الدخول الحكومي «الفاعل» ترفضه السعودية، ولو أنها تدرك أن لرفضها حدوداً تقف عندها. فالأوساط الديبلوماسية سمعت رفضاً سعودياً لإشتراك «حزب الله» بشكلٍ فاعل في الحكومة، لكنها آثرت الوقوف خلف الموقف الأميركي الذي يراقب عن كثب مطالب «الحزب» حول الحقائب، واقترابه من مواقع حسّاسة. ما يعني أن واشنطن ستقف بحزم ضد وصول «حزب الله» الى الحقائب السيادية أو الأساسية، ولكنها لن تعترض في حال بقي «حزب الله» في إطار الوزارات العادية.
ولكن النقطة اللغز التي ما تزال تُطرح في الأوساط السياسية، تتعلق بغياب نادر الحريري عن المسرح السياسي، والأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك. علماً أن نادر الحريري كان قد ردّد أمام الذين التقاهم قبل قرار إستقالته، بأن هنالك تراجعاً لتيار المستقبل وهذا صحيح، لكن هذه الخسارة ليست قاسية وقابلة للإستيعاب والتعويض. وحسب هؤلاء لم يكن نادر الحريري متشائماً ولا سلبياً، وكان متفائلاً في إمكانية تجاوز نتائج الإنتخابات.
العارفون يقولون إن جملة عوامل تقاطعت وأدّت الى خروج الحريري، بعضها بات معروفاً، وبعضها الآخر ما يزال طيّ الكتمان.
فهنالك السبب الذي أعلن عنه ويتعلّق بالإدارة الفاشلة للملف الإنتخابي. فمثلاً لم يقتنع سعد الحريري كيف أن تيار المستقبل أمّن لوحده حاصلَين في دائرة زحلة ليخرج بالكاد بمقعد واحد. وكيف نجح أحدهم بأصوات المستقبل وهو ذهب الى كتلة نيابية أخرى. كما أن دائرة بيروت شكّلت كارثة بكل ما للكلمة من معنى، إضافة الى دائرة جزين.
وهناك السبب الإقليمي والمتعلّق بالإعتراض السعودي الدائم على بعض الشخصيات القريبة من سعد الحريري وفي طليعتها نادر الحريري، الذي نسج طوال المرحلة الماضية سياسة تيار المستقبل بالتفاهم مع الوزير جبران باسيل. وهذه السياسة ارتكزت على التسوية الرئاسية والتفاهم الحكومي مع التيار الوطني الحر والمساكنة والتنسيق من خلف الستارة مع «حزب الله».
وقد تقاطع «الفيتو» السعودي مع شكوى دائمة من الكثير من الفرقاء السياسيين من دور نادر الحريري، وأبرزهم الرئيس برّي ووليد جنبلاط وسمير جعجع وشخصيات أخرى حليفة لـ«المستقبل». ولكن هنالك سبباً ثالثاً ويتعلق بإستباق أي دور لنادر الحريري في تأليف الحكومة. ففي السابق كان نادر الحريري هو مَن هندسَ ولادة الحكومة الحالية من جانب تيار المستقبل، وبالتنسيق مع الوزير باسيل.
يومها أُخذ على سعد الحريري كيفية القبول بهذه الحكومة وخصوصاً الرضوخ في منح وزارة العدل لسليم جريصاتي صاحب الموقف المعروف من ملف إغتيال رفيق الحريري. وزاد الطين بلّة فشل جريصاتي في وزارة العدل إضافة الى فشلٍ لاحق.
بعض وزراء المستقبل مع كلام كثير حول تفاقم الفساد أثار استياءً شعبياً واسعاً لدى الشارع السنّي.
وهو ما يعني أن توقيت الإستقالة أخذ بالحسبان الملف الحكومي، وترك الملف في يد الرئيس الحريري مباشرة والذي يستعد لإعفاءات جديدة. لكن الطلاق الحبّي بين سعد ونادر قد لا يكون نهائياً وقد يدوم لفترة محددة.
لكن ذلك لن يعني أبداً نقض التسوية الرئاسية، فالسعودية باتت مقتنعة بنظرية الحريري حول الفوائد من العلاقة الجيدة مع جبران باسيل، والتي سمحت خلال المرحلة الماضية بإبعاد التيار الوطني الحر لمسافة عن «حزب الله».
لكن إبتعاد نادر الحريري سيخفّف بعض الشيء، الإلتصاق الذي كان حاصلاً مع باسيل، في مقابل التقدّم خطوة نحو الفرقاء الآخرين، وهو ما سيظهر من دون شك مع ولادة الحكومة الجديدة.