تحاصر النزعة الإسرائيلية في غزّة وتسعى إلى خريطة حل متكامل
تمضي قدماً الميني حرب المكتومة جنوباً بين إسرائيل وحزب الله وحلفائه (على سبيل المثال، حركتا حماس والجهاد الإسلامي، والوافد الأخير قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني لتنظيم الإخوان المسلمين). وليس خافيا أن الحزب يقبض وحيدا على القرار ويحدّد الأولويات والمسار والوجهة، مع تراجع دراماتيكي في الاهتمام بالملف الرئاسي. كما هو يملأ الخواء الذي آثرت الحكومة الاختباء خلفه عاجزة ومسلّمة أمرها واللبنانيين، بذريعة افتقادها قرار الحرب والسلم. والأسوأ أنها ارتضت أن تتحوّل صندوق بريد للحزب تنقل إليه التنبيهات والتحذيرات التي تصلها من عواصم القرار، وخصوصا باريس وواشنطن، من غير أن تفلح في الاستحصال على إجابة واضحة منه عن السؤال المركزي: هل من حرب؟
كان لافتا، في السياق الحربي القائم، أن الإدارة الأميركية أعادت الحياة إلى الديبلوماسية المكوكية (رائدها وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر) في سعيها إلى مواكبة التطورات البالغة الخطورة في فلسطين، ومنع توسّعها، خصوصا صوب الجبهة الجنوبية.
مهّد وزير الخارجية أنتوني بلينكن في جولته التي شملت 6 عواصم عربية (القاهرة، الرياض، أبو ظبي، الأراضي الفلسطينية، عمّان، الدوحة) إضافة إلى زيارتيه الاثنتين لإسرائيل، الطريق لزيارة الرئيس جو بايدن والتي اقتصرت على تل أبيب بعد رد الفعل العربي حيال مجزرة مستشفى المعمداني.
إلى الآن، نجحت واشنطن في منع تمدّد النيران إلى خارج غزّة. كما احتوت نسبيا النزعة الإسرائيلية لشن حرب برية شاملة وماحقة على القطاع. هي على يقين أن الحرب يُعرف أين تبدأ لكن لا يُعرف أين تنتهي. لذلك لا تزال تسعى إلى وضع خريطة طريق لحل سياسي فلسطيني – اسرائيلي مستدام في مرحلة ما بعد العملية العسكرية الإسرائيلية، وهي للمناسبة لا تزال بأفق وامتداد زمني مجهول بفعل انعدام اليقين على المستويين السياسي والعسكري.
وصار واضحا أن اللاعبين الرئيسيين، تل أبيب وطهران، يتصارعان على حافة الهاوية، فإما الحرب الشاملة وإما التسوية التي تجلب إلى كلّ منهما المكاسب التي يبحثان عنها.
التسوية، والحال هذه، لا تقتصر بالتأكيد على غزة. في المدى القريب:
1-بعضها ينطوي على إعطاء إسرائيل دفعة غير مسبوقة من المساعدات المالية، إلى جانب المساعدة في تطهير الجيوب في غزة، سياسيا وعسكريا، من قوات حماس، من غير أن يعني ذلك نجاحا كاملا للخيار الإسرائيلي بالترانسفير إلى سيناء، ولا تعثّره كذلك.
2-وبعضها الآخر يمنح طهران تحريرا جديدا للمليارات المجمّدة، إضافة إلى مكاسب وإن محدودة في الملف النووي.
3-أما التوليفة التسووية الشاملة فتحتاج إلى وقت لإنضاجها، وكذلك إلى مزيد من الجهد، وسيكون قاعدتها حكما حلُّ الدولتين، مع الاستعانة بالمال العربي الوفير، وربما بقوات ردع عربية شبيهة بالتجربة اللبنانية الغابرة التي انتهت إلى وصاية سورية مباشرة امتدت ما يقرب الثلاثة عقود.
في أي حال، تنبئ الديبلوماسية المكوكية هذه باختراق سياسي ما، وإن لا يزال غير واضح المعالم، في موازاة رسائل عسكرية تريدها الإدارة الأميركية ردعية، على غرار حاملة الطائرات جيرالد فورد الراسية قبالة الشاطئ الإسرائيلي، وتتبعها في غضون أيام قليلة الحاملة دوايت أيزنهاور.
تستهدف تلك الرسائل لبنان وحزب الله، أكثر من استهدافها حركتيّ حماس والجهاد الاسلامي، بغية تحييد الجبهة الشمالية قدر الإمكان، وإشغال الحزب بنيّة فرملة أي اتجاه لديه للمشاركة الفاعلة في الحرب، فيما هو لا يزال على موقفه بتثبيت قواعد الاشتباك (آب 2006) والقائمة على جعل المناطق التي لا تزال اسرائيل تحتلّها في مزارع شبعا، مسرحا لعملياته، إلى جانب المعادلة القائمة على قتل اسرائيلي في مقابل كل لبناني يسقط.
جاءت الرسالة الأميركية إلى عدد من المسؤولين حادّة وشديدة الوضوح: 7 تشرين الأول 2023 يوازي خطورة 11 أيلول 2001 (حدّثها بايدن في تل أبيب بقوله إن ما حصل في إسرائيل يشكّل 15 ضعفا لما حصل في 11 أيلول). وعليكم في لبنان التنبّه إلى هذه المعادلة والتصرّف وفقها، وإلا خسائركم هائلة، أين منها ما وقع بكم في حرب 2006.
يدرك المسؤولون أن ما سمعوه أكثر من جديّ، وأن لبنان وليس أي طرف بعينه سيتحمّل عبء الآتي في حال نشوء الحرب. لكن القرار في مكان آخر، عند حزب الله.