يبدو منطقياً كلام الإيرانيين عن حرب نفسية تخوضها إدارة الرئيس دونالد ترامب ضدهم في الخليج. إنهم أنفسهم خبراء في الحرب النفسية. ومنطقي أيضاً أنّ واشنطن لا تمزح بإرسال حاملة الطائرات «إبراهام لينكولن» وترسانة عسكرية هائلة إلى هناك. لذلك، الحرب المندلعة حالياً نفسية – سياسية في المبدأ. والطرفان يعرضان فيها العضلات ويطرحان بنوداً للتفاوض في الوقت نفسه. ولكن، أليس ممكناً اندلاع الحرب عسكرياً في لحظة معينة؟
عندما آنت الساعة لانطلاق الجيل الثاني من العقوبات الأميركية على إيران، وفيها انتهت المهلة الممنوحة لـ 8 دول لاستيراد إنتاجها النفطي، أدرك الإيرانيون أنّهم باتوا على وشك اختناق اقتصادي خطِر. لذلك، ذهبوا إلى استخدام 3 أوراق يعتقدون أنّها مناسبة:
-1 «تشغيل» أوروبا (فرنسا وألمانيا خصوصاً) والحليفين الروسي والصيني، للمساهمة في تنفيس الضغط عليهم وإحباط المسعى الأميركي. فمن الواضح أنّ البريطانيين يميلون أكثر إلى دعم الموقف الأميركي، وقد بعثوا برسائل إلى إيران تؤكّد ذلك. لكن فرنسا وألمانيا تقفان اليوم عند نقطة شديدة الحساسية:
لا يمكنهما مجاراة ترامب تماماً وإحراق مصالحهما مع طهران، التي أمَّنها الاتفاق النووي… وفي السياق عينه، لا يمكنهما الإنصياع إلى الإيرانيين عندما يعلنون الانسحاب التدريجي من هذا الاتفاق…
وأما روسيا والصين فحساباتهما مختلفة. ويبدو أنّهما يدركان أكثر من سواهما نهايات اللعبة الجارية حالياً، ولا يريدان المغامرة بـ«دعسات ناقصة»، لا مع إيران ولا مع الولايات المتحدة.
-2 تلويح إيران بانسحابها هي أيضاً من اتفاق 2015 النووي، مع ما يعنيه ذلك من عواقب لجهة عودة طهران إلى بناء ترسانة نووية.
يريد الإيرانيون أن يردّوا على خطوة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بالقول إنّهم هم أيضاً مستفيدون من سقوط الاتفاق، إذا اضطرهم الأمر إلى ذلك. ولذلك، لوَّح الرئيس حسن روحاني بتعليق جزءين من الاتفاق كانت إيران تلتزمهما، وهما بيع فائض اليورانيوم المخصب، والمياه الثقيلة.
وقال: أمام الأوروبيين وروسيا والصين فرصة 60 يوماً للاختيار. إما أن يَفوا بالتزاماتهم المالية والنفطية تجاهنا، وإما أن يلتحقوا بالولايات المتحدة… وفي هذه الحال، سنبدأ بإنتاج اليورانيوم العالي التخصيب، وهو ما نتجنبه حتى الآن، وسنطوِّر مفاعل «آراك» للمياه الثقيلة، كما كان مقرراً في الخطط السابقة لاتفاق فيينا.
طبعاً، عندما بادر الأميركيون إلى الانسحاب أحادياً من الاتفاق، قبل عام، اتهموا إيران بـ«الخبث». وهم يعتبرون أنّها أساساً تستفيد من فكّ الحصار الذي كان مضروباً عليها، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، للمضي في بناء قوتها النووية وتدعيم نفوذها في دول المنطقة وتهديد حلفاء واشنطن وتحريك الميليشيات التابعة لها والخلايا في عمليات غير مشروعة عبر العالم.
-3 التهديد بضرب مصالح الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط والخليج. وفي الدرجة الأولى، المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
وفي هذا السياق، نُشرت معلومات استخبارية قبل أيام، وتداولتها وسائل إعلام أميركية، مفادها أنّ إيران قد تلجأ إلى ضرب أهداف أميركية في عدد من دول الشرق الأوسط، بما فيها العراق. وقد تمّ التعاطي في واشنطن مع هذه المعلومات بكثير من الجدّية. وكانت عاملاً أساسياً في تحريك الترسانة البحرية صوب الخليج.
ويدرك العديد من المراقبين أنّ إيران لن تغامر في تنفيذ ضربات من هذا النوع، سواء عبر الحرس الثوري أو عبر التنظيمات المتحالفة معها في بعض دول الشرق الأوسط، لأنّها تدرك عواقب ذلك. لكن الاحتمال يصبح وارداً «انتحارياً» إذا وصل الإيرانيون إلى وضعية اختناق اقتصادي ومالي وفقدوا كل وسيلة أخرى. عندئذٍ سيلجأون ربما إلى مقولة «عليّ وعلى أعدائي».
في هذه الحال، قد يستهدفون حلفاء الولايات المتحدة، العرب وإسرائيل، إذا أحسّوا بأنّهم عاجزون عن ضرب المصالح الأميركية مباشرة، بسبب العواقب المقدَّرة. وينظر البعض إلى تصعيد «حماس» ضد إسرائيل، الأسبوع الفائت، بصفته أحد مظاهر الضغط الإيراني.
لقد وجّهت إدارة ترامب رسالة حاسمة إلى إيران، مفادها أنّ اللعب عند حافة الهاوية يمكن أن يقود- في النهاية- إلى الهاوية. ولذلك، أرسلت حاملة الطائرات الأميركية «إبراهام لينكولن» والترسانة المرافقة. وعلى الأرجح، يدرك الإيرانيون، على رغم عروضات القوة التي يستخدمونها، أن هامش مناورتهم العسكرية ضيّق جداً.
وينظر المتابعون بواقعية شديدة، لا بانفعال، إلى التطورات المرتقبة بين الأميركيين والإيرانيين في الخليج. والرئيس الأميركي نفسه أظهَرَ طرف الخيط، باكراً جداً… ما يقطع الطريق على كثير من الأوهام…
في الساعات الأخيرة، قال ترامب إنّه يتطلع إلى «لقاء القادة الإيرانيين، يوماً ما، للتوصل إلى اتفاق نووي جديدٍ وعادلٍ معهم، واتخاذ خطوات تمنح إيران المستقبل الذي تستحق». وحرصت مديرة شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، فيكتوريا كوتس، على إيضاح أنّ العرض الذي أطلقه ترامب للاجتماع مع النظام الإيراني هو «عرض جدي».
إلّا أنّ «الكلمة السرّ»، على الأرجح، تكمن في عبارة كوتس التالية: «إنّ أي لقاء مع الإيرانيين سينعقد بناء على الشروط الأميركية. ومنها أن تتخلّى إيران عن دعم الإرهاب وأن تحترم حقوق شعبها. فإذا لم تفعل ذلك، ستستمرُّ الضغوط عليها. وكلُّ الخيارات في التعامل معها لا تزال على الطاولة».
إذاً، واضحٌ أنّ الخيار المتبقي أمام الإيرانيين، هو المرجّح: فتحُ باب التنازلات لهم وإنجاز اتفاقٍ جديدٍ تكون فيه المبادرة لواشنطن. فما استطاعت إيران تحقيقه في عهد الرئيس باراك أوباما لم يعد صالحاً للاستمرار مع الإدارة الأميركية الحالية.
ومعروف عن ترامب براعته في اعتماد أسلوب «الصفقة». فهو مارس الضغط حتى على حلفاء الولايات المتحدة في الخليج… وأبرم معهم صفقة الـ450 ملياراً. وضغَط على «أعدائه» في كوريا الشمالية حتى انتهى معهم إلى حوار تاريخي. وهو يضغط على روسيا والأوروبيين والصينيين، أصدقاءً وخصوماً ومنافسين، تمهيداً لصفقات معهم، صغيرة وكبيرة.
ومع إيران، الأرجح أنّ هناك صفقةً، لا حرباً، على الطريق. فما يجري اليوم من عرضٍ للقوة هو تفاوضٌ على أعلى درجات من السخونة.
ويمكن هنا أن تُفهَم جيداً العبارة التي أطلقها السفير الأميركي في روسيا، جون هانتسمان، إذ قال، إنّ كل حاملة طائرات أميركية في مياه المتوسط تعادل 100 ألف طن من الديبلوماسية العالمية. ويستعدّ الخليج اليوم لاستقبال أكثر من 200 ألف طن من الديبلوماسية الأميركية العائمة…