الزوبعة التي أثارها القانون الأميركي المتعلق بـ«مكافحة تمويل حزب الله دولياً» بدأت تنحسر لمصلحة مشهد آخر يكمن في نتائج التطبيق. ما تبيّن حتى الآن في تقارير واردة إلى الكونغرس الأميركي ومعلومات مستقاة من مصرف لبنان والمصارف، أن التطبيق يخلق شبكة نقدية موازية للنظام المصرفي، وهذا ما قد يشكّل حافزاً لإجراء بعض التعديلات على تطبيق القانون
«نتائج تطبيق القانون الأميركي ستولّد تداعيات سياسية واجتماعية ومالية. سنشهد خلق شبكات نقدية موازية للنظام المصرفي اللبناني، ما يبعد الفئة المستهدفة ومناصريها ويخفض تعاملاتهم مع المؤسسات، فضلاً عن التخفيف من مستوى مراقبة التدفقات.
الرقابة ستصبح أقوى على الودائع المصرفية والتدفقات لدى النظام المصرفي، إلا أن الرقابة على السوق السوداء ليست محكمة».
هذه خلاصة تقارير عدّة رُفعت إلى الكونغرس الأميركي عن نتائج تطبيق قانون «مكافحة تمويل حزب الله دولياً». وهي، بحسب مصادر مطلعة، تتحدث بإسهاب عن العقوبات على المؤسسات المالية والمصارف المركزية المنخرطة في عمليات مالية ملحوظة وبعلمها لحساب حزب الله أو للأشخاص المدرجين على اللائحة السوداء (لائحة أوفاك). وهذا «المحور»، كما تصفه التقارير، يشمل 4 مستويات من التطبيق:
ــــ الأول يتعلق بحزب الله الذي يملك خبرة واسعة في نقل التمويل خارج القنوات المصرفية. إذ إنه لا يتعامل مع المصارف المحلية، وتجري عملياته المالية خارج النظام المصرفي الرسمي على نطاق واسع، باستثناء نواب الحزب ووزرائه.
ــــ الثاني يتعلق بالمؤسسات الاجتماعية المرتبطة بالحزب (مدارس وجمعيات مستشفيات وسواها)، وهي الأكثر تأثّراً بالقانون الأميركي، علماً بأنها تتعامل يومياً مع موردين وشركات أخرى. وتطبيق القانون عليها يعني أن الجهات التي تتعامل معها سترفض العمليات النقدية، وبالتالي ستلجأ المؤسسات إلى «تبييض الأموال».
ــــ الثالث يتعلق بالموظفين في المؤسسات المرتبطة بالحزب. فالقانون ليس واضحاً في شأن هذه الفئة، لأن الموظفين ليسوا بالضرورة جزءاً من تنظيم الحزب، وتطبيق القانون عليهم سيدفع جزءاً واسعاً منهم خارج النظام المصرفي، وبالتالي سيؤثّر فيهم وفي النظام المصرفي.
ــ الرابع يتعلق بالمهاجرين الشيعة، وخصوصاً في أفريقيا. فأصول (يقصد بها الأموال) هذه الفئة نقلت أصلاً إلى لبنان بواسطة الطائرات، منذ بدأ تضييق الحظر على معظم دول أفريقيا.
الرقابة الأميركية
وتستند التقارير إلى وقائع ثابتة في السوق المحلية تفيد بأن ليست لحزب الله حسابات في المصارف اللبنانية، لكن لديه عشرات المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل في العلن ضمن البيئة الشيعية، ولديها حسابات في المصارف بأحجام ووتيرة معروفة. ومن بين هذه الوقائع، بحسب مصادر مصرفية مطلعة، ما يتعلق بالثقل الاقتصادي والمالي للشيعة في لبنان، الذي يتجاوز الثلث لجهة الودائع وحجم التجارة الداخلية، فضلاً عن أن وجود الشبكة النقدية الموازية للنظام المصرفي ليست خافياً على أحد، وأبرز أمثلته المبالغ النقدية التي وزّعها حزب الله على المتضررين من عدوان تموز.
لذا، إن تشديد العقوبات سيضخّم القنوات المالية غير النظامية ويوسّع عملها، ما يجعلها قابلة للاختراق من قبل جهات غير حزب الله. علماً أن متابعين في واشنطن يرون أن المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالحزب والتي تتعامل مع المصارف موجودة تحت العين الأميركية من خلال الرقابة التي تقوم بها مصارف المراسلة الأميركية مع المصارف اللبنانية، وبالتالي لا داعي لإخراجها وإبعادها عن النظام الرسمي، ولا جدوى من تعزيز الشبكة النقدية غير النظامية.
وتأتي التقارير الجديدة بعد جدل وغموض أحاطا بآليات تطبيق القانون الأميركي في لبنان. فعندما صدرت المراسيم التطبيقية للقانون، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميماً يطلب من المصارف تطبيقه وإعلام هيئة التحقيق الخاصة بالحسابات التي تقفل أو تجمد، أو تلك التي يمتنع المصرف عن فتحها للزبائن. وأثار التعميم حفيظة حزب الله الذي اعتبر أن سلامة نكث بوعوده بمنع المصارف من التوسّع في التطبيق. ولم ينته الجدال رغم صدور بيان عن سلامة أثناء زيارة لباريس الشهر الماضي قيل إنها للقاء مسؤولين أوروبيين للبحث في تطبيق القانون الأميركي. بيان سلامة، تُرجم بـ»إعلام» صدر عن هيئة التحقيق الخاصة، يطلب إلى المصارف أن ترسل إليها (الهيئة) طلبات معللة بإقفال حساب أو تجميده أو الامتناع عن فتحه، فيما منحت الهيئة نفسها مهلة 30 يوماً للردّ على طلبات المصارف. وتزامن صدور الإعلام مع زيارة لمساعد وزير الخزانة الأميركية مسؤول الاستخبارات المالية دانيال غلايزر لبيروت، حيث التقى سلامة بحضور نائبيه رائد شرف الدين ومحمد البعاصيري، ومسؤولي هيئة التحقيق الخاصة، ومجلس إدارة جمعية المصارف. وزار أيضاً اللواء عباس إبراهيم وعدداً من المسؤولين. ويقال إن تعميم هيئة التحقيق الخاصة عُرض على غلايزر، إلا أنه لم يعلّق عليه، وبدا أنه لم يكن يسعى إلى تقديم أي أجوبة، بل إلى تبليغ رسالة. وبحسب أحد المصرفيين المطلعين، ترك المسؤول الأميركي انطباعاً بأن «أجهزة الإدارة الأميركية في حيرة من أمرها بشأن التطبيق التقني للقانون الأميركي. الأميركيون يعلمون أن التشدّد في التطبيق يعني تدمير النظام المصرفي بكامله في لبنان، وهو ما لا يريدونه». ويشير المصرفي إلى أن غلايزر أوحى أنه «ليس مرجعاً لتفسير القانون الأميركي المطلوب تنفيذه». لذا، إن مهمة التفسير والإشراف على التطبيق باتت على عاتق مصرف لبنان «الذي كان على تواصل مع كل المرجعيات المعنية في أوروبا وأميركا». ويستند المصرفي إلى أن «اللعبة الأميركية تشجع الاقتصاد النقدي، ولا أرى أن هناك مشكلة كبيرة بالنسبة إلى حزب الله، فالمصارف ليست قادرة على منع التدفق النقدي، ما جعل كل الكلام في هذا الموضوع لا معنى له».
الأجوبة غير الحاسمة كانت حاضرة أيضاً في اللقاء الشهري بين حاكمية مصرف لبنان ومجلس إدارة جمعية المصارف. المصارف التي كانت تتوسّع في تفسير القانون الأميركي وتطبيقاته، لم تنجح في انتزاع أجوبة حاسمة من سلامة أيضاً. وهي استفسرت، مثلاً، عن كيفية تسديد الحساب للعميل الذي يغلق حسابه، وهل يدفع المصرف له نقداً أو شيكاً مصرفياً. وأظهر النقاش أن التسديد النقدي أو الشيك المصرفي يُسهمان في عمليات تبييض الأموال، إذ إن المبالغ التي سيحصل عليها الزبون ستبقى في لبنان وستعود وتدخل بطرق غير نظامية إلى النظام المصرفي.
كذلك طلبت المصارف، في مقابل تطبيق إعلام هيئة التحقيق الخاصة، أن تكون لديها ضمانات من سلامة في حال تضرُّر أي مصرف بسبب تطبيق القانون وفق القواعد التي وضعتها هيئة التحقيق الخاصة. سلامة استمهل الردّ على هذه النقطة أيضاً.