كلام في السياسة |
إذا كانت بكركي، ومعها الكنائس المشرقية مجتمعة، وخلفها كل المسيحيين المعنيين أو المهتمين بالعلاقة مع الغرب، يعتقدون بأن ما أصابهم في واشنطن صفحة طويت، فهم مخطئون. وإذا كانوا يعتبرون أن الأذى والضرر اللذين ألحقا بهم في “موقعة 11 ايلول المسيحية”، لا يستدعيان أي معالجة، فعندها يكون خطأهم نوعاً من أنواع الكوارث. فما حصل في ذلك النهار لم يفتأ يتداعى ويتفاقم ويكبر مثل كرة ثلج. ولفهم مخاطره يكفي الذهاب إلى الإعلام الأميركي، والاطلاع أولاً على نطاق التغطية التي أفردها للحدث. وثانياً لمعرفة المضمون السلبي لتلك التغطية.
وثالثاً والأكثر مدعاة للأسى، للتقصّي حول مصادر كلام هذا الإعلام.
قد لا يهتم الناس في بيروت بالأمر. لكن في عاصمة “روما الجديدة” المسألة مختلفة بالكامل. فلجهة نطاق التغطية الإعلامية الأميركية، كان لافتاً أنه لم يكن قد مضى أكثر من ساعة واحدة على خطاب تيد كروز، الذي فجّر إشكال مؤتمر ما سمي “دفاعاً عن المسيحيين”، حتى كان البحث عن الموضوع على محرك “غوغل” يعطيك أكثر من 750 ألف رابط يتكلم عن “الحادثة”. حتى الآن قد يكون الأمر مفهوماً. فممثل تكساس في الكونغرس سياسي سجالي حادّ، يجذب الإعلام ويستقطبه مثل قصة الرجل والكلب والعضة! ثم إن الموسم في واشنطن انتخابي. وكروز يخوضه بعنف، كما كل استحقاقاته، ويتحضّر لينطلق منه الى ترشيحه الرئاسي بعد سنتين. كل ذلك يفسر إلى حدّ ما كثافة التغطية. غير أن التدقيق في وسائل الإعلام التي راحت يوماً بعد يوم تتناول الموضوع، يثير ملاحظة أكثر جدية. إذ ليس طبيعياً أن يستأثر مؤتمر لمسيحيين من الشرق الأوسط، باهتمام مؤسسات ضخمة، مثل “تايم” و”نيوزويك” و”واشنطن بوست” و”سي بي إس” و”إم إس إن بي سي” و”بي بي سي”، ثم “هافينغتون بوست” و”بوليتيكو” و”ويكلي ستاندارد”… فضلاً عن كبريات وسائل الإعلام الأميركية من دون استثناء. تغطية لا يمكن أن تكون عفوية ولا تلقائية أو بريئة، خصوصاً متى علمنا أن أكثر من 90 في المئة من الإعلام الأميركي مملوك من ست شركات، معروفة الميول والاتجاهات والواجهات والخلفيات. ثمة أمر عمليات إذاً قد صدر، مضمونه: سلّطوا الضوء عليهم، ظهّروهم بالقدر الأقصى. إجعلوا من مؤتمر، لم يأت محرر صحافي أميركي واحد لتغطيته طيلة ثلاثة أيام، حدثاً تتناقله أميركا كل الأيام التالية. لكن بأي مضمون؟
هنا تكمن المسألة الثانية المريبة في نكبة 11 أيلول. إذ قد يكون من الممكن أن تتشابه القراءات الصحافية لحدث معين. لكن أن تتطابق بالكامل، وأن يكون العنوان في حرفيته على صدارة كل التغطيات، فتلك مسألة أخرى: “مسيحيون معادون لاسرائيل يُسكتون كروز”. لازمة قرئت حرفياً في عشرات وسائل الإعلام المفترضة مهنية وحرفية لا تنقل ولا تنسخ. أما التفريدات المجتهدة فكانت أسوأ: “معادون للسامية يقاطعون خطاباً مؤيداً لاسرائيل”، “موالون لحزب الله وبشار الأسد يسكتون مؤيداً لإسرائيل في واشنطن”، وصولاً إلى كلام يتهم المعنيين من روحيين وزمنيين بالكراهية لليهود والحقد والعنصرية الدينية! ماذا يعني هذا الكلام، الآن وفي واشنطن بالذات؟ بكل بساطة إنها بمثابة محرقة للكنائس المشرقية ومؤمنيها وقضاياها. إنها عملية مركبة مدروسة مقصودة إرادية واعية، لإقفال باب واشنطن حيال أي صوت مسيحي مشرقي، ولطرد أي صوت مناصر ممكن من عاصمة حكم الأرض. ومتى؟ عشية حصول تطورات لبنانية وشرق أوسطية قد تحدد مصير المنطقة ولبنان.
بعد زلزال 11 أيلول، لمن لا يعرف كيف تعمل ماكينة واشنطن السياسية، كلما سيذهب مسيحي مشرقي ليطرق باب ناشط أميركي، سيبادر الأخير إلى طبع كلمات قليلة على محرك بحث “غوغل”: شرق أوسط، مسيحيون، دفاع … وستكرّ أمام عينيه آلاف اتهامات العداء للسامية ولليهود ولاسرائيل. فيقفل بابه أمام “الزبون” ويبلغ كل زملائه أن ثمة فيروساً من النوع القاتل في المدينة.
قد لا يكون منظمو المؤتمر الفظيع أرادوا ذلك. ومن الظلم ربما اتهامهم بالتواطؤ أو التآمر. غير أن نسبة الارتجال مع قدر كبير من عدم المعرفة والهواتية في العمل، فتحت الباب واسعاً أمام من سدّد ضربته إلى الكنائس الشرقية وشعوبها. لكن يبقى السؤال: من فعل ذلك؟
هنا تبرز المسألة الثالثة: من أين استقى الإعلام الأميركي معلوماته عن خلفيات المؤتمر المسيحي وأبعاده؟ من هي مصادره؟ من ذخّره بالرصاص القاتل، ومن أمن له تلك المواد الشديدة الانفجار في بيئة معجونة بصناعة الهولوكوست؟ التدقيق في ما نشره ذلك الإعلام يشي بالكثير من الدلائل. مثلاً، أن تلجأ وسيلة إعلامية إلى تفريغ التسجيل المصور الذي صار على شبكة “إنترنت”، وأن تنشر حرفية كلام البطريرك لحام في ذروة ثورته، أمر طبيعي. في أقصى الاحتمالات، يمكن التقدير أن الوسيلة جدية في عملها، فطلبت من متقن للغة العربية ترجمة أقوال البطريرك. وأن تلجأ وسيلة إعلامية أخرى إلى رصد ردود فعل بعض الحاضرين، رفضاً لكلام كروز، فتنقل ترجمة لهتافاتهم، مسألة طبيعية هي الأخرى. لكن أن تكتب وسيلة إعلامية أميركية، تعليقاً على الحادثة، بعد انتهاء المؤتمر لا قبله، انه كان بين المتحدثين “البطريرك الماروني الكاردينال بشاره الراعي، الذي كان قد دافع عن حق حزب الله في مهاجمة اسرائيل، ودعا إلى عقد لقاء بينه وبين حسن نصرالله، زعيم المجموعة الإرهابية المدعومة من إيران”… فذلك بعدٌ آخر للمسألة. أو أن تكتشف وسيلة إعلام أميركية أن بطريرك السريان الأرثوذكس، مار أغناطيوس أفرام، كان قد نشر على صفحته الخاصة على “فايسبوك” في 5 أيلول، صوراً للقائه مع “وفد رفيع المستوى من حزب الله”، فهذا غير مألوف لوسيلة قد لا يعرف أي من محرريها تهجئة اسم البطريرك. أو أن تنبش وسيلة أميركية كلاماً للبطريرك الراعي من العام 2011، يصف فيه اسرائيل بأنها دولة عدوة، أو أن تتفرد وسيلة أخرى بعرض كل أدبيات البطريرك لحام حول انتقاده للصهيونية، مما لا يتوافر ضمن أي أرشيف مفتوح باللغة الإنكليزية… فهذا ما يدعو إلى الاستغراب. فكيف إذا استخدمت كل تلك الاستشهادات لوسم البطاركة بحلفاء تنظيم إرهابي وحكم مجرم وأعداء للسامية؟!
العارفون بكواليس واشنطن يؤكدون أن لا بيت موردوخ أصدقاء البطريرك أفرام على فايسبوكه، ولا مالكو “تايم وارنر” روم ملكيون ليتلقفواو يؤرشفوا كل حرف يقوله البطريرك لحام. وهم بالتالي يشيرون إلى أن المصادر التي تقف خلف الحملة محلية، لبنانية، بلدية جداً. تولت تنفيذ أمر عمليات واضح، لمصلحة عدو مشترك. العارفون بكواليس واشنطن، يؤكدون أن جزءاً كبيراً من أسباب ما حصل، هو أن “أحدهم” أطلق النار على رأسه، عله يصيب رأس شقيقه المتكئ على كتفه! يبقى سؤال: كيف المعالجة من هنا؟