تتحرَّك إسرائيل بقوّة في محاولة لتأمين مصالحها الأمنية والسياسية وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وهي التي تواكب الحركة الحاصلة في الكواليس لترتيبِ التسوية السياسية في سوريا، ومعها تقاسم خريطتها الجيوسياسية الجديدة.
في موسكو، سعت إسرائيل إلى تبيان حدود النفوذ الإيراني المسموح به، وفي واشنطن تحاول الحكومة الاسرائيلية استكشاف حقيقة الموقف الاميركي من النفوذ الايراني الجديد والذي سيَطبع عقوداً عدة مستقبلاً، وإمكانية تحَوّل التحالف الدولي الذي يسير وراء واشنطن قوةً مناهضة لإيران، وبتعبير أوضَح، ما إذا كانت الادارة الاميركية مستعدّة فعلاً لوضعِ خطة عملٍ جدّية لمحاربة النفوذ الايراني.
واشنطن التي يزورها وزير الدفاع الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان ورئيس الاركان غادي ايزنكوت، سمعَت طوال الاشهر الماضية شكاوى القلق الاسرائيلية من أنّ إيران اصبحت على حدودها في الجولان كما في جنوب لبنان، وأنّ تل أبيب باتت واثقةً من أنّ نفوذ ايران المتعاظم في سوريا لا تعالجُه الادارة الاميركية فعلياً وجدّياً وبحَزم، بل تكتفي بمواقف سياسية وإعلامية.
والواضح أنّ الحكومة الاسرائيلية تُبالغ في شكواها من السياسة الاميركية، وهو ما اعتادت عليه تاريخياً بهدف استجلاب العطف والتركيز على مخاطر وجودية تتعرّض لها على املِ اقتناصِ الحدّ الاقصى من المكاسب التي تَطلبها والتفَلّت من الالتزامات المطلوبة منها.
لكنّ الشكوى الإسرائيلية ترتكز على حقيقةٍ باتت قائمةً وهي النفوذ الايراني الجديد، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان. وكان واضحاً أنّ الضغط الاميركي الذي بلغَ ذروته مع امتناع الرئيس دونالد ترامب عن توقيع الاتفاق النووي الإيراني إنّما يَحكمه سقفٌ ثابت وهو عدمُ تركِ الامورِ تعود الى حال العداء السابقة. فواشنطن طمأنَت اوروبا الى مصالحها في ايران والاستثماراتِ التي تمّ توقيعها، ما يعني انّ الاتفاق النووي لن يُنقَض في نهاية المطاف.
ترامب نفسُه قال في حديث لشبكة «فوكس نيوز» أن لا اعتراض لديه على استمرار فرنسا وألمانيا في علاقتهما التجارية مع ايران، وهو ما يعني أن لا عودة إلى سياسة العقوبات.
ويُصبح الهدف الاميركي أوضَح من خلال النظر إلى مسوّدة قانون جديد صاغَها عضوا مجلس الشيوخ الجمهوريان بوب كوركر وتوم كوتون تحت إشراف ترامب، وتضمَّنت إعادةَ فرضِ عقوبات على ايران في حال اختبَرت طهران صاروخاً بالستياً قادراً على حملِ رأسٍ نووي أو إذا منعت المفتشين النووين من دخول ايّ موقع.
وهو ما يعني أنّ الكونغرس الاميركي سيعيد إمرار الاتفاق النووي مع ايران بعد إدخال بنود تضمن تطبيقَه بنحوٍ أفضل، ما يعني ايضاً انّ واشنطن ستستخدم فترةَ الاسابيع المقبلة للضغط بهدف دوزَنةِِ جديدة للأحجام وليس أبداً لإلغاء دورِ إيران الاقليمي كما روَّج بعض الاطراف بعدما تحدّثوا عن حرب مقبلة.
وخلال الايام الماضية تبادلت طهران وإسرائيل، ومِن خلفِها واشنطن، وإلى حدٍّ ما الوكيل القوي في المنطقة موسكو، عدداً من الرسائل الميدانية.
فبَعد الصاروخ القديم نوعاً ما والذي استهدفَ طائرةَ استطلاع اسرائيلية بلا طيّار فوق البقاع الشمالي قبل ساعات من وصول وزير الدفاع الروسي الى اسرائيل، والردّ الاسرائيلي على ذلك، زارَ رئيس الاركان الايراني اللواء محمد باقري دمشق، وتلا ذلك انطلاقُ خمس قذائف من المناطق الخاضعة للسلطة السورية الى مواقع في الجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي.
وخلال زيارة باقري التي استمرّت اياماً عدة، اعلنَ الجنرال الايراني عن تعزيز التعاون والتنسيق العسكري بين الجيشين الايراني والسوري، وخصوصاً ضدّ اسرائيل، وأنّ طهران لن تقبل بانتهاك اسرائيل السيادةَ السورية، وحصَل بعد ذلك إطلاقُ القذائف، وقد فَهمت اسرائيل مضامين هذه الرسالة.
ذلك أنّ الحكومة الاسرائيلية أثارت في موسكو، كما في واشنطن، إنشاءَ منطقة في الجولان السوري بعمق 30 كلم خاليةٍ ممّا تعتبره تهديداً إيرانياً لها. كما انّها تُعارض إنشاءَ قواعد عسكرية ايرانية في سوريا وتأمينَ الطريق البري من طهران الى الناقورة عبر العراق وسوريا، كما انّها تريد اعترافاً برقابةٍ جوّية لها.
وفي المقابل، فإنّ ايران مع حلفائها وجَّهت رسائلها من الجولان واستمرّت في توسيع رقعة الانتشار العسكري شمالاً، وعينُها على تأمين الطريق البرّية.
أمّا واشنطن، التي هي على تنسيق كامل مع موسكو حول الخطوط العريضة السياسية والعسكرية في سوريا، فيبدو أنّها ستستمر في ضغوطها في المرحلة الحالية، ولكنّها بدأت التحضيرَ لمفاوضات عبر موسكو حول رسم خريطة النفوذ.
في برنامج الضغوط، تشير معلومات متداوَلة على نطاق ضيّق داخلَ الأروقة الديبلوماسية أنّ البيت الابيض أوكلَ الى المخابرات المركزية الاميركية مهمّات واسعة في سوريا والعراق وأفغانستان، ويَعتمد مدير الـ CIA مايك بومبيو على ضربات طائرات «الدرونز» والتي تتركّز الآن مثلاً على المناطق القبلية في باكستان، الى جانب بعض العمليات في اليمن وسوريا.
ونقِل عن بومبيو في مؤتمر امنيّ عقِد هذا الشهر في ولاية تكساس قوله: «لا يمكن أداء مهمّتِنا إذا لم نكن عدوانيّين وبلا رحمة ولا هوادة. ففي كلّ دقيقة يجب أن نركّز على سحقِ أعدائنا».
وكلام بومبيو في ظاهرِه يُناقض خيار الضغط ليصلَ الى حدود الحرب الامنية المفتوحة، إلّا إذا كان كلامه يصبّ في التهويل، اي الضغط، وهذا هو التفسير الارجح.
وتتحدّث أوساط ديبلوماسية مطّلعة عن أنّ واشنطن التي تسعى الى فتحِ جبهةِ الشرق على إيران من خلال افغانستان، تستعدّ لترتيب أوضاع البلدان التي تقع غرب حدودها (العراق وسوريا ولبنان) من خلال مفاوضات قريبة تعترف خلالها لطهران بمساحة نفوذ، ولكن بعد التفاهم على جملةِ عناوين مطلوبة.
وبخلاف ما يَعتقد كثيرون، فإنّ واشنطن قد تقف طويلاً في وجه تأمين طهران لطريق تواصُلِها البري وصولاً الى لبنان، ولكن بعد ضمان نقاط تطلبها.
كذلك بدا أنّ واشنطن تراجَعت عن فكرة تكريس النظام الفدرالي في سوريا، وهو ما كانت تُعارضه ايران، حيث إنّ «سوريا الجديدة» ستأخذ عِبَرها من التجربة اللبنانية، وبالتالي اعتماد «طائف سوري»، ما يعطي رئاسة الحكومة صلاحيات جدّية ويولي الأقليات رئاسة مجلس النواب.
وفي موازاة ذلك، يحاول ترامب الاستفادةَ من الظرف وإمرارَ تسوية إسرائيلية – فلسطينية.
فعمدت إدارته لإعادة إحياء خلاصات مبادئ الاتفاق الرباعي (quartet) الذي شاركت فيه عام 2006 كلٌّ مِن الامم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا الى جانب الولايات المتحدة الاميركية، وكان لديفيد ساترفيلد دورٌ أساسي في صوغِه، وهو الذي عمل سفيراً لبلاده في لبنان، ويتولى اليوم دوراً أساسياً في ملف الشرق الأوسط.
يومها تَوافقَ المجتمعون على مبادئ حلٍّ للقضية الفلسطينية، واليوم أعلنَ الموفد الاميركي جيسون غرينبلات أنّ على الفلسطينيين تأليفَ حكومة وحدة وطنية، ولو اضطرّ الأمر لأنْ تكون حكومة تكنوقراط، والقبولَ نهائياً بالكيان الاسرائيلي، وأن تلتزم «حماس» عدمَ الاقتداء بنموذج «حزب الله» لحلّ المشكلات المعيشية المتفاقمة.
وفي موازاة تلك الصورة سيتصاعد الضغط على «حزب الله» أيضاً. وصحيح أنّ واشنطن سترفع لهجتها بعض الشيء وستعلن عن عقوبات بهدف إزعاج «حزب الله»، لكنّ لهذه الضغوط حدوداً وسقفاً لن تتجاوزه الإدارة الاميركية خشية أن تفلِت الامور وتذهبَ الى الانفجار، وهو ما لا يريده احد.
ويبدو أنّ واشنطن حضّرت المسرح جيّداً لأن تتواصل مع «حزب الله»، ولو بطريقة غير مباشرة، لتبدأ مفاوضات صعبة معه في توقيتٍ لم يعد بعيداً، وهو توقيت يلحَظ التطورات في سوريا وفلسطين. ويُراهن مسؤولون اميركيون على واقعية «حزب الله» وتعديل حجمِه العسكري الاقليمي والذي أضحى كبيراً جداً، في مقابل الاعتراف بدوره السياسي وحضورِه المنظّم، وهو ما تتطلّبه المرحلة المقبلة والخريطة الجيوسياسية الجديدة.
هي إذن مرحلة تعديلِ وترتيبِ الأوزان والأحجام والدور، وليس فتح أبوابِ حروب جديدة لشطبِ أرقام كما يروّج له ويتمنّاه بعض البسطاء، وهم بالمناسبة كثُر. ولذلك ربّما طلبَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يزور لبنان في شهر آذار المقبل، فالتوقيت قابلٌ لأن يحملَ معه تركيزَ أسُسِ المرحلة الجديدة، وهو يَطمح لأن يكون لبلاده دورٌ فيها، مع الإشارة الى أنّ البحث جارٍ للقاءٍ يجمع ماكرون بكتلة نواب «حزب الله».