IMLebanon

كم بقي بيد واشنطن من الـ99% من أوراق اللعبة؟

 

لا يمكن أن نفهم التأجيل المستمر لعملية «اجتياح غزّة» التي أعلن عنها الصهاينة بعد هزيمتهم المنكرة في عملية «طوفان الأقصى» إلّا إذا تذكرنا دائماً الفارق بين الرغبة والقدرة في أي عمل يقوم به الإنسان، فكيف إذا كان العمل عسكرياً بمستوى الحرب التي تنوي تل أبيب وداعميها شنّها على قطاع غزّة.

فالرغبة في «اجتياح غزّة»، بل في تدميرها وتدمير فلسطين ومقدسات فلسطين وأكناف فلسطين حاضرة وبقوّة في عقل الصهاينة ومن ورائهم، كما هي حاضرة في نوايا حكومات الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، لكن القدرة على تحقيق هذه الرغبة محفوفة بالعديد من المخاطر والصعوبات، أولها بكل تأكيد قدرة المقاومة المرتقبة من بواسل القسّام وإخوانهم في فصائل المقاومة في غزّة وعموم فلسطين على إلحاق أقسى الخسائر بالمهاجمين الصهاينة، وهم الذين أثبتوا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر بطولة وكفاءة أذهلت الصديق قبل العدو.

وثانيها: وجود محور مقاومة متنامٍ وممتد من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط وبينهما البحر الأحمر، وهو أمر لم يكن موجوداً بهذه القوة في الحروب السابقة، بل لم يكن هناك ما يشكّل خطراً، على الكيان الصهيوني نفسه كما هو اليوم، بل على الوجود الأمريكي، والغربي عموماً، في الإقليم كله.

وثالثهما: حراك شعبي عربي وإسلامي ضخم فاجأ الكثيرين الذين ظنّوا أن تعلّق أبناء الأمّة بعروبتهم وإسلامهم وبمقدساتها في فلسطين، قد تراجع أمام الفتن والحروب والمخططات التي عبثت بأوطاننا وسعت إلى تقسيم الدول وانقسام المجتمعات، وإذ بهذه المجتمعات والشعوب التي ظنوا أنهم أغرقوها في صراعات عرقية وطائفية ومذهبية وحزبية تجتمع كلها حول عروبة فلسطين وحرمة مقدساتها وحول حق شعبها في الحياة وتقرير المصير.

ورابع المخاطر: هو هذه الهبّة الشعبية العالمية التي هزّت دعائم المشروع الصهيو – استعماري في العواصم التي انطلق منها، والتي شكّلت أصلاً حماية ودعماً دائماً له، لا سيّما واشنطن ولندن وباريس وبون، بالإضافة إلى عشرات العواصم والمدن الغربية التي خدعها التضليل الصهيوني و«البايدني» في بداية المعركة، فإذ بها تخرج بالملايين إلى الشوارع غاضبة مرتين، مرة من الإجرام الصهيوني، ومرّة من كذب حكامهم غير المسبوق في العالم.

فأن تتحوّل أرض «بلفور» إلى ميادين مستمرة لتظاهرات البريطانيين المندّدة بالوحشية الصهيونية وأن يجتمع الملايين حول مناظرات تلفزيونية مع السفير الفلسطيني حسام زملط والإعلامي المصري باسم يوسف، وأن تحاصر التظاهرات المماثلة حدائق البيت الأبيض والكونغرس، رافضة لدعم حكومتها غير المحدود للعدو الصهيوني، حتى وصل الأمر إلى أن استطلاعات الرأي أكّدت أن أكثر من 56% من أعضاء الحزب الديمقراطي (حزب بايدن) المعروف بتأثره التاريخي باللوبي الصهيوني، تحوّلوا إلى مؤيدين لفلسطين ومناهضين للعدوان الصهيوني، وأن تمتلأ ساحة الجمهورية في باريس بالحشود من الفرنسيين يعلنون مواقف معاكسة تماماً لمواقف رئيسهم ماكرون الذي خرج بصفاقة عن سياسة تقليدية لبلاده منذ زمن ديغول، وهي سياسة التميّز المحدود عن السياسة الأميركية في الحروب على الشعوب، والتي توّجها جاك شيراك ومعه المستشار الألماني غيرهارد شرودر في بداية هذا القرن، بموقفها الرافض للحرب على العراق قبل أن يعودا ويلتحقا بالسياسة الأميركية.

أما خامس هذه المخاطر: هو اقتناع واشنطن أن موازين القوى الإقليمية والدولية باتت اليوم مختلفة عما كانت عليه زمن الحروب على أفغانستان (2001)، والعراق (2003)، وحرب لبنان (2006)، والحرب على سورية وليبيا واليمن، والتي يمكن لنا أن نعتبر هذه الحروب وصمود الشعوب فيها، نقطة التحوّل الاستراتيجي في منحنى الصراع بين الأمّة وأعدائها.

ويضاف إلى هذا التحوّل في موازين القوى الإقليمية، تحوّل مماثل في موازين القوى على المستوى الدولي، لا سيّما بعد التقدم الروسي في حربه مع الأطلسي في أوكرانيا، والتقدّم الصيني في أكثر من أزمة في الشرق الأقصى، وصولاً إلى إرسالها بالأمس ست قطع بحرية إلى الشرق الأوسط، وهو تحوّل تدرك واشنطن معه أن تورطها في حرب جديدة ستكون هزيمة محقّقة لها.

يمكن أن نعدّد مخاطر وأسباب أخرى عديدة تفسّر التأجيل المستمر للحرب البرية على غزّة، أهمها هو أن قوة غزّة الإسرائيلية المجهّزة أصلاً لغزو القطاع قد تلاشت بفعل عملية «طوفان الأقصى» وتبعثرت بين قتيل وجريح وأسير وفار من الميدان وهي تطور هام يفسر هذا التأجيل.

إن الإدارة الأميركية وحتى أصحاب الرؤوس غير الحامية في تل أبيب يدركون هذا كله، لكن هذا لا يعني أن الحرب البرية، رغم تأجيلها، باتت مستبعدة، بل على قوى المقاومة أنها تعدّ لها وكأنها ستقع غداً، فالاستعداد هنا هو من أهم العوامل التي تساعد على استبعاد هذا الاحتمال.

لقد لفتنا النظر منذ البداية إلى العوامل التي تضغط على نتنياهو ومنافسيه في تل أبيب لتأجيل خوض الحرب البرية، ولم نرَ في خطب بايدن وموظفيه الصارخة في دعم الكيان الصهيوني، بل وحضوره شخصياً إلى تل أبيب مع أدواته من حكام الغرب، إلّا محاولة لطمأنة أهل الكيان المرتبك والمرتجف خوفاً على مصيره، والطلب إليهم ألّا يتسرعوا في ارتكاب خطأ كالذي ارتكبه بوش الابن في الحرب على أفغانستان والعراق بعد 11 سبتمبر 2001 في بداية هذا القرن، والتي رأينا نتائجها في «الهروب المذلّ من كابول، وفي العراق حيث يواصل مقاوموه قصف القواعد العسكرية الأميركية، فيما تحتشد جماهيره على الحدود مع الأردن في الطريق إلى فلسطين بعد أن ظنّ المحتل الأميركي أنه باحتلاله العراق وحلّ جيشه الوطني وضرب هويته وقواه العربية الإسلامية لمصلحة العصبيات الطائفية والمذهبية، أن بإمكانه مدّ أنابيب النفط من كركوك إلى حيفا، فإذ بشعب العراق يمدّ احتشاده من بغداد إلى التنف باتجاه القدس.

ورغم قسوة الجراح التي تخلّفها محارق العدو بحق أطفال فلسطين ونسائها وشيوخها ومساجدها وكنائسها ومستشفياتها وهي المحارق التي تفوّقت على محارق الهولوكوست، ورغم الدماء والدمار والخراب الذي نراه في غزّة وصولاً إلى الضفة الغربية وشمال فلسطين حيث نرى جبهتين آخرتين في مواجهة العدو، لا بدّ من القول أن كل ما يفعله اليوم المعسكر المعادي لأمّتنا هو خوض معركة الحفاظ على ماء وجه العدو بعد هزيمته المنكرة في السابع من أكتوبر 2023، والتي جاءت استكمالاً لانتصار السادس من أكتوبر عام 1973، لكن مع فارق مهم، أن إدارة المعركة اليوم بيد المقاومين وخلفهم الشعوب، وليست بيد حكام تسمّرت عيونهم على رضى واشنطن، والتي قالوا «أنها تمتلك 99 % من إدارة اللعبة» فتحوّلوا إلى أدوات بيدها ومنفّذين لإملاءاتها.

فكم بات اليوم بيد واشنطن من هذه الأوراق؟

سؤال ينبغي أن يوجهه إلى نفسه كل واحد من حكام المنطقة ويبني سياساته وحساباته في ضوء الإجابة عليه.