تتمسَّك الأوساط الديبلوماسية بنظرتها «التفاؤلية» ولو بحذر، تجاه البركان المشتعل في الشرق الأوسط، على أساس أنّ زمن الحلول بدأ وأنّ الجهود هي لحصر حمم البركان المشتعل ومنعه من توسيع دائرته تمهيداً لإطفاء لهيبه.
لا تُنكر هذه الأوساط أنّ العواصم الغربية التي أدارت من بعيد مسار الحرائق التي اشتعلت في المنطقة مع بدء ما عُرف بـ«الربيع العربي»، إنما سعَت إلى تحقيق مصالحها وسط التناقضات الحادة التي برَزت والتفسخات التي كانت تُزعزع المجتمعات العربية.
وانسجاماً مع نظرية هنري كيسنجر القائلة إنّ التسويات الكبرى لا تتحقّق إلّا عبر الأحداث الساخنة، اندفعت العواصم الكبرى إلى ترتيب تسويات في الشرق الأوسط تُحاكي العقود المقبلة.
وقد لا يكون حجمُ الدمار وأهوالُ الخراب والضحايا الأبرياء هما الدافع للإقرار بوجوب حصر النيران والانطلاق نحو التسويات، بل درجة المخاطر التي وصلت إليها الأمور والتي باتت تُهدّد المجتمعات الغربية في حال استمرارها وتماديها.
فالنزاعات داخل تركيا بدأت تأخذ منحىً خطراً والتهديد الذي يطاول عمق الدول الأوروبية أصبح أكثر من جدّي، خصوصاً مع الانفجار المرتقب لـ«قنبلة» «داعش» في ليبيا والساحل الافريقي عموماً وأزمات الخليج باتت خطرة، وتبدو من خلال ذلك مصالح الولايات المتحدة الأميركية مهدَّدة بدورها، فالخطر بدأ يقترب من حلفائها ما يعني احتمال خروج الوضع عن السيطرة ولا حاجة للتذكير بالعدد الكبير للجاليات الإسلامية في أوروبا والتي أثبتت الأحداث الأخيرة خصوصاً في فرنسا بأنّ التنظيمات الإرهابية قادرة على التغلغل والنموّ بسرعة في بعض هذه المجتمعات من خلال إيديولوجيات دينية سريعة الاشتعال والانفجار.
وكان واضحاً العجز الذي واجهته الحكومات الأوروبية حيالَ اتخاذ إجراءاتٍ جذرية وحاسمة ما يترك أبواب الخطر مفتوحة، واستطراداً فإنّ المعالجة الجدّية قد لا تكون من خلال اتخاذ تدابير الحماية الأمنية المحلية بل من خلال إخماد البركان المتفجّر في الشرق الأوسط وإنجاز التسويات السياسية الممكنة، وقد يكون هذا المدخل هو الذي أعطى لروسيا دوراً كبيراً في الشرق الأوسط انطلاقاً من سوريا، فيما الولايات المتحدة الأميركية تراقب شراكتها المستجدة مع روسيا من دون التورّط مباشرة في «الأعمال القذرة» وعلى أساس تكليف موسكو بها.
وخلال الأيام الماضية نشطت التحرّكات الجدّية والهادفة إلى إيجاد ترتيبات عملية لإنجاز التسويات السياسية المطلوبة، فزار نائبُ وزير الخارجية الأميركية انطوني بلينكن باريس حيث تابع نتائج الاجتماع الأوروبي المخصّص لسوريا والذي حضره وزراءُ خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي.
والتقى المسؤول الأميركي مطوَّلاً وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت حيث نقل له تشجيعَ بلاده للمضي قدماً في العملية السياسية، وحين سأله إيرولت عن احتمال حصول تغيير في السياسة الأميركية بعد وصول رئيسٍ جديد الى البيت الأبيض نتيجة الحملات الانتخابية التي تحمل طعماً مختلفاً هذه المرة، أجاب بلينكن بأنّ دوائرَ صنع القرار في واشنطن اتخذت قراراً نهائياً حائزاً على اطلاع ودعم الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ويقضي بعدم التورّط في حرب برّية إلّا في الحالات القصوى والاكتفاء حالياً بعملياتٍ لها طابع «جراحي» محدّد ضدّ مواقع وأهداف محدّدة جداً تُنفّذها مجموعات النخبة، إضافة الى عمليات جوّية من خلال طائرات «الدرونز» التي أطلق فلسفتها رئيس الوكالة المركزية للمخابرات الأميركية جون برنيان منذ نحو ثماني سنوات، يوم كان مساعداً للرئيس الأميركي باراك أوباما لشؤون الإرهاب.
وكانت الرسالة التي حملها بلينكن واضحة لجهة أنْ لا حلولَ عسكرية وفق المعطيات الموجودة حالياً، بل سعي إلى إنتاج تسوياتٍ سياسية كحلّ لبراكين المنطقة المشتعلة، مع ما يعني ذلك وجوب إشراك جميع الأطراف فيها وإيجاد مكان لكلِّ طرف.
واللافت أنّ المسؤول الأميركي أبدى اهتمامَ بلاده بإعادة الحرارة الى العلاقات السعودية – اللبنانية وأنّ واشنطن تتحرّك في هذا الاتجاه، وطلب المساعدة الفرنسية في هذا المجال.
وفي الوقت نفسه كان رئيس الحكومة التركية أحمد داوود اوغلو يقوم بزيارة مثيرة الى طهران حيث التقى المسؤولين الإيرانيين الكبار. طبعاً إنّ جدول الأعمال بين البلدين يبقى حافلاً وتشكل الساحة السورية ساحة التناقض المباشرة بينهما، وقد حرص كلّ فريق على عدم اختراق السقف المرسوم للصراع بينهما وعلى رغم الحرب الدائرة بين البلدين بالواسطة في سوريا، فإنّ ملفاتٍ عدة قادرة على الجمع بينهما من باب الواقعية السياسية.
فقوة الردع الإسلامية التي أعلنت عنها السعودية في مراحل سابقة والتي تهدف لحجز مقعدٍ قوي في الحلول السياسية المطروحة لسوريا، تُقلق أنقرة في بعض نواحيها: فكيف لها أن تقبل بوجود قوى وجيوش بالقرب من حدودها مثل الجيش الباكستاني الذي يُعتبر أحد أبرز جيوش العالم لناحية قوته والتجهيزات الممنوحة له.
وما من شك في أنّ هذه النقطة تجمع ما بين أنقرة وطهران، إضافة الى النزعة القوية الموجودة لدى الأكراد لإنشاء كيانٍ مستقل لهم في سوريا يصل الى حدود الاقليم المنفصل.
ويراهن الأتراك على أنّ المرونة الإيرانية حيال الأكراد هي مرونة ظاهرية وظرفية، كون نشوء هذا الكيان الكردي سيُهدّد في نهاية المطاف المصالح المباشرة للدولة الإيرانية التي لها تاريخ حافل مع الأكراد.
تبقى زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف الى باريس على رأس وفدٍ كبير جرى انتقاؤه بعناية. فإضافة الى وزير الخارجية والإعلام شارك رئيس الاستخبارات العامة ووزير الدولة عصام بن سعيد الذي يصفه الديبلوماسيون الغربيون بأنه النجم الصاعد في الهرمية السعودية.
صحيحٌ أنّ المحادثات تناولت استئناف المفاوضات حول الملف السوري وأوضاع الميدان والسقف السياسي للمفاوضات، إلّا أّنّ الرئيس الفرنسي تولّى طرحَ الملف اللبناني متسلّحاً بالدعم الأميركي في هذا الإطار.
وبدت باريس حريصة على مسألة أساسية وهي تأمين الحماية المطلوبة للبنان ليستطيع الاستمرار على رغم واقعه الصعب والأحوال التي تعصف حوله. وأنّ أحد أبرز شروط حماية لبنان تبقى في تأمين الاستقرارَين الأمني والاقتصادي، وأنّ الإجراءات السعودية الأخيرة فيما لو استمرت توحي باحتمال هزّ الاستقرار الاقتصادي فالنقدي، ما يفتح أبواب المجهول أمام مستقبل البلاد.
وفُهم بأنّ ولي العهد السعودي شرح الأسباب التي أدت الى موقف بلاده وخصوصاً لناحية وقف الدعم العسكري للجيش اللبناني، إلّا أنه أكّد التزامَ بلاده عدم اتخاذ إجراءاتٍ تؤدّي الى هزّ الاستقرار الاقتصادي للبنان وتحديداً الاستقرار المصرفي والنقدي، وأنّ رفع صوات الاعتراض شيء والسماح بنشر الفوضى في لبنان شيء آخر.
ووعدت باريس بتفعيل جهودها وصولاً إلى إنتخاب رئيس جديد للجمهورية وإنجاز تسوية لبنانية جانبية تحميه قدر الإمكان من تأثير إيران وحزب الله. لكنّ الأهم أنّ باريس انتزعت تأكيداً سعودياً بعدم وصول إجراءاتها إلى حدود هز الاستقرار النقدي للبنان.
بيد أنّ هذه النقطة لم تكن الوحيدة التي تشغل بال باريس ومعها واشنطن حول الوضع في لبنان. إذ أبلغت العاصمة الأميركية المسؤولين الفرنسيين الكبار بأنها تدخلت لإجهاض مشروعٍ إرهابي يقضي بتفجير الوضع الأمني في لبنان انطلاقاً من الشمال.
ووفق هذه المعلومات، فإنّ الأجهزة الأميركية كانت اكتشفت إعادة فتح قنوات الضخ المالي لشبكات أصولية موجودة في شمال لبنان لا سيما في عكار بهدف القيام بأعمال أمنية تحت عنوان ملاقاة الحرب الدائرة في محافظة حمص والسعي إلى الضغط على الجيش النظامي السوري انطلاقاً من الحدود الشمالية للبنان وإفشال الهدنة في سوريا.
وتردَّد أنّ واشنطن سرّبت معلومات مفصّلة عن هذا المشروع الى الأجهزة الأمنية المعنية ومنعت وصولَ الإمدادات المطلوبة وقد تكون قضية اكتشاف باخرة السلاح تقع ضمن هذا الإطار.
صحيحٌ أنّ الرعاية الدولية لمبدأ تأمين استقرار الساحة اللبنانية من خلال الأمن والاقتصاد تبدو هي الأولوية، لكنّ العواصم الدولية تدرك جيداً أنّ إغلاق ملف الاستحقاق الرئاسي يؤمّن الجانبَ الأكبر من هذه المهمة.
وفيما يبدو لها أنّ اختراق حال المراوحة في هذا الملف مسألة تبدو صعبة في هذه الفترة، فإنّها تأمل أن يؤدي التقدم المأمول على مستوى التسوية في سوريا الى انقشاعٍ أكبر في الرؤية حول الملف الرئاسي اللبناني والى التّخفيف من شدّ الحبال الإقليمي حول هذا الملف.
ما يعني أنّ المسألة قد تحتاج لبضعة أشهر إضافية من دون إغفال السعي الغربي الجديد إلى إنجاز تسوية لبنانية جانبية ضمن إطار المناخ الإقليمي الجديد الذي يميل ولو بصعوبة الى تدشين بدء مرحلة طويلة ومتعرّجة من المفاوضات والتسويات، إلّا إذا استجدت تطوّرات غير محسوبة وغير متوقّعة، وهو ما حصل في أكثر من محطة تاريخية في الشرق الأوسط، ما قد يعيد خلط الأوراق.