من البديهي ان تستعد الساحة الشرق اوسطية لموجة سياسية ضاغطة تقودها الولايات المتحدة الاميركية، بعد ان تحرّرت إدارة بايدن من الانتخابات النصفية وفق نتائج مرضية، وإعادة ترتيب العلاقات الاميركية ـ الصينية، إثر القمة بين الرئيسين في بالي. وهذان العاملان سيضعان إدارة بايدن في وضع اكثر راحة، ويجعلانها قادرة على ولوج الترتيبات التي لا تزال عالقة في المنطقة الأكثر تعقيداً في العالم، أي الشرق الاوسط.
فالمنازلة الانتخابية الاميركية، والتي أُريد لها ان تشكّل عامل ضعف للرئيس الاميركي، انقلبت لتصبح نزاعاً داخل الحزب الجمهوري بين الرئيس السابق دونالد ترامب وخصومه داخل الحزب، والذين منحتهم نتائج الانتخابات جرأة التحدّي.
صحيح انّ هذه الفوضى «الجمهورية» لم تمنع ترامب من تقديم ترشيحه للرئاسة، لكن ثمة نجوماً جدداً أفرزتهم الانتخابات النصفية، ويطمحون للترشح للرئاسة وانتزاع الترشيح الرسمي للحزب. ووفق استطلاع شركة اميركية متخصّصة، فإنّ 10% من القاعدة الشعبية للجمهوريين هي ضد ترامب في المطلق. وهنالك نحو 40% مع ترامب مهما فعل وقال. ويبقى ما تقارب نسبة الـ 50%، والتي كانت ساندت ترامب سابقاً وصوّتت له مرتين، الّا انّها بدأت تفكّر بالتخلّي عن خيار ترامب هرباً من الفوضى الحاصلة.
وبدل ان يقع بايدن في المأزق، وقع الحزب الجمهوري برمته. فالوقائع التاريخية متعددة حيال نموذج ترامب السياسي، او ما يُعرف بالزعماء «الشعبويين» الذين يسجّلون براعة في سياسة التدمير الذاتي. وهذه هي النقطة بالذات التي دفعت بايدن إلى الارتياح لنتائج الانتخابات. ولذلك، انطلق الى قمة الدول العشرين في بالي، بعدما استعاد الثقة بالنفس، فجاءت القمة التي عقدها مع نظيره الصيني منتجة وناجحة. هي قمة تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي كانت تُعقد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ايام الحرب الباردة، رغم انّ الخريطة الدولية لا تزال بعيدة كل البعد من مبدأ تقاسم العالم. والتفاهم الذي أرساه بايدن مع تشي كان واضحاً من خلال العبارات التي اطلقها بعد الاجتماع.
فهو قال صراحة أن لا داعي للقلق من حرب باردة جديدة. فالولايات المتحدة عادت إلى قيادة العالم. واستطرد بايدن قائلاً للرئيس الصيني: «نسعى إلى إدارة التنافس بيننا على حلّ الخلافات سلمياً». فيما كان الرئيس الصيني يعكس ايجابية التفاهمات التي حصلت، وهو يقول: «إنّ العالم كبير بما يكفي لازدهار بلدينا. فبكين لا تسعى الى تحدّي واشنطن او تغيير النظام الدولي القائم».
الواضح انّ هذا التفاهم الاميركي ـ الصيني يعني انّ واشنطن نقلت تركيزها في المرحلة المقبلة إلى مكان آخر، من المرجح ان يكون روسيا. فالأولوية أُعيد ترتيبها بسبب الحرب المفتوحة في اوكرانيا وانعكاساتها، خصوصاً على الوضع الاقتصادي الروسي المأزوم.
وطالما انّ الرئيس الصيني نفسه التزم علانية بعدم سعي بلاده لتغيير النظام الدولي القائم، فهذا سيعني تسهيل المهمّة الاميركية لإعادة تنظيم الوضع في الشرق الاوسط.
ولأنّ الورشة الشرق أوسطية هي على قاب قوسين من إعادة فتحها، فلا بدّ من التقاط الإشارات الدولية التي تتعلق بلبنان. ففي 28 من الشهر الجاري ينعقد مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الدوري والمخصّص للبنان كل 4 اشهر. وسيناقش مجلس الأمن تطبيق القرار 1701 والوضع في جنوب لبنان، في ظلّ مهمات قوات الطوارئ الدولية، والأزمة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، وذلك على ضوء التقرير الذي يعدّه الأمين العام للامم المتحدة. وبعدها بيومين وتحديداً في الاول من كانون الاول المقبل، ستُعقد قمة بين الرئيسين الاميركي والفرنسي حول الوضع في اوروبا بسبب الحرب الاوكرانية، إضافة إلى ملفات اخرى، وفي طليعتها الملف اللبناني.
وتولّت الدوائرالفرنسية وضع رؤيتها للوضع في لبنان وتصوراتها المستقبلية. وجاء الاتصال الهاتفي بين ماكرون وولي العهد السعودي حول لبنان في هذا الاطار، خصوصاً انّ باريس أبلغت الى كثير من الذين يتواصلون معها، أنّها متفاهمة مع الادارة الاميركية كلياً حيال الدور الذي تقوم به في لبنان.
وقد عادت الذاكرة بالبعض إلى لقاء الرئيسين الاميركي والفرنسي جورج بوش وجاك شيراك في النورماندي، والذي أرسى تفاهماً بالعمل معاً في لبنان، وأدّى في نهاية المطاف إلى صدور القرار 1559 وإخراج الجيش السوري من لبنان.
وقد يكون من المبالغة تشبيه القمة الاميركية ـ الفرنسية في اول الشهر المقبل باجتماع النورماندي يومها، الّا انّ ثمة بعض وجوه الشبه، والتي لا يمكن التنكّر لها.
فكما كانت المنطقة على ابواب مرحلة جديدة دشّنها الغزو الاميركي للعراق عام 2002، هنالك بداية مرحلة جديدة في الشرق الاوسط، تقوم على أنقاض الحروب التي دمّرت سوريا والعراق، إضافة الى انهيار مالي واقتصادي دمّر لبنان، وفي موازاة ذلك تمّ افتتاح مسار «اتفاقية ابراهيم» مع إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة.
وفي اجتماع النورماندي كان الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو المدخل للمسار الذي انطلق لاحقاً. واليوم، فإنّ الاستحقاق الرئاسي يبدو كنقطة انطلاق لمسار لبناني جديد.
لذلك، وبخلاف الأجواء المتشائمة القائمة، فإنّ فترة الشغور الرئاسي لا تبدو من دون أفق. صحيح انّ الامور قد تكون في حاجة الى بضعة اشهر لإنضاجها، لكن ترف إضاعة الوقت ليس متوافراً. وفي انتظار ان تنضج الظروف اكثر لإعادة إنتاج سلطة لبنانية تحظى بثقة داخلية وبرضى خارجي وتحديداً اميركي ـ فرنسي ـ سعودي، سيستمر المسار التراجعي خصوصاً على مستوى المتطلبات الحياتية، ولكي نكون منصفين، فإنّ الكوارث من صنع أيدينا اكثر منه من صنع الخارج.
وعلى سبيل المثال، فإنّ كل ما حُكي عن انفراجات على مستوى الكهرباء، لا تبدو واقعية وقريبة الحصول. صحيح انّ «الفيول» الايراني غير مسموح استقدامه حتى ولو كان هبة، لكن التعاطي اللبناني مع شراء الفيول من الجزائر فيه كثير من الخفة ويرسم كثيراً من علامات الاستفهام.
على سبيل المثال، يروي رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي، انّه خلال زيارته للجزائر يرافقه وزير الطاقة وليد فياض، طلب من الرئيس الجزائري إنجاز صفقة شراء الفيول. ووافق الاخير فوراً طالباً من وزيري الطاقة في البلدين الاجتماع والقيام بالترتيبات الكاملة.
وفي طريق عودته إلى لبنان، سأل الرئيس ميقاتي الوزير فياض عن نتيجة اجتماعه، فأجابه وزير الطاقة برفع إبهامه، أي علامة ممتاز.
لكن عندما سافر ميقاتي الى مصر للمشاركة في قمة المناخ اقترب الرئيس الجزائري منه وسأله متعجباً: لماذا لا يريد وزيركم الفيول الجزائري؟
وثمة حادثة اخرى تتعلق بالهيئة الناظمة، حيث كان يتهرّب منها فياض، على الرغم من انّها تشكّل مطلباً أساسياً لصندوق النقد الدولي. لكنه طلب منه على الأقل وضع الاعلان المطلوب في «الايكونوميست». لكن فياض كان يعمد الى تأجيل ذلك من دون سبب واضح. وعندما سأله ميقاتي لماذا يفعل ذلك، اجاب فياض، انّ مرجعاً رفيعاً جداً في «حزب الله» طلب منه ذلك. وسُمع ميقاتي يصرخ بحدّة في أحد الاجتماعات وهو يقول: «كيف يمكن ان نأتي بالكهرباء مع وزير «مهرّج».
ذلك انّ ميقاتي يدرك الأهمية الملحّة لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي. وخلال وجوده في مصر سأل ميقاتي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول شروط صندق النقد، فنصحه السيسي قائلاً: «التزموا بتطبيق الشروط واحصلوا على الشهادة واحملوها بيدكم».
ميقاتي الذي يرى في سليمان فرنجية صديقاً مخلصاً سانده دائماً في الماضي، وهو ملزم من باب الوفاء ردّ التحية له، يرى ايضاً في قائد الجيش شخصية ممتازة تحترم موقعها وعملها، وتعمل بأخلاق والتزام ونظافة، يخشى ان تطول مرحلة الشغور الرئاسي، خصوصاً انّ «حزب الله» الواقع بين فرنجية وباسيل قد تصعب عليه مهمة التوفيق بينهما. ذلك أنّ شخصية باسيل لا يمكن إلّا ان تخسر لأنّها لا تقبل سوى بربح كامل ولوحدها.
قد يكون الرئيس ميقاتي محقاً في أنّ التعقيدات اللبنانية كبيرة ومتشابكة، لكن ثمة تبدّل في المناخ الخارجي، وهذا هو الاهم.