كشفت التقارير الواردة من واشنطن عن بدء التحضيرات في الكونغرس الأميركي لإعادة النظر في قانون «جاستا» او قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، وهو الذي أعطى الحق لأسَر ضحايا هجمات 11 أيلول بمقاضاة السعودية ودول أجنبية في قضايا الارهاب، والذي أكّد عليه الكونغرس بأكثرية موصوفة دحضاً للفيتو الذي وضعه باراك اوباما. فما هي الظروف التي حكمت هذه التحضيرات؟
ليست المرة الأولى التي يؤكد فيها الكونغرس الأميركي على قانون جَمّده الرئيس الأميركي بفِعل حق الفيتو الذي يستخدمه في حالات استثنائية. لكنها قد تكون الأولى التي يستعد فيها الكونغرس لإعادة النظر بقانون ينصّ على معاقبة الدول التي تدعم الإرهاب تحت عنوان «العدالة ضد رعاة الإرهاب» بعد أسابيع قليلة على إقراره تزامناً مع ذكرى أحداث 11 ايلول.
وقالت التقارير القليلة الواردة من واشنطن انّ ممثّلين من لجان الكونغرس بدأوا بإعادة النظر في هذا القانون على خلفية ما هو متوقع من المخاطر المترتبة على اقتصاد الدولة وعلاقاتها الخارجية ووقف الإساءة الى دولة حليفة كالمملكة العربية السعودية التي تتمتع بثقل إقتصادي ومالي عالمي جعلتها من مجموعة الدول الصناعية العشرة الكبرى ومن مجموعة العشرين المؤثرة في الإقتصاد العالمي وثاني أكبر دولة بعد روسيا في إنتاج النفط.
قد يكون من المستغرب وجود مثل هذا التوجّه في الكونغرس وقد دخلت البلاد مدار الانتخابات الرئاسية بحماوة لم تشهدها من قبل، والتي زاد منها التحدي الذي مارسه أعضاء الكونغرس بأكثرية ديموقراطية وجمهورية عاندت الرئيس أوباما في قراره بتجميد القانون الجديد حِرصاً منه على حماية الإقتصاد الأميركي بالدرجة الأولى ومعه المرشحة الديموقراطية وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، وهو الذي يرغب بأن يسلّمها مقاليد الحكم من بعده، والتي تستعد لدخول البيت الأبيض مطلع العام المقبل مرة أخرى كرئيسة بعد ان سَكنته لسنوات كزوجة للرئيس.
ومناسبة الربط بين الإستحقاق الرئاسي وإقرار القانون والتحضيرات الجارية للنظر فيه تعود الى الظروف التي حكمت توليد الأكثرية من اعضاء مجلسي النواب والكونغرس على رفض الفيتو الرئاسي متجاوزين حاجات الإدارة الأميركية الحالية الساعية لتمديد إقامة الديموقراطيين في البيت الأبيض ومسلسل التحذيرات التي أطلقها اوباما في الكتاب الذي برّر فيه ممارسة حق الفيتو لمنع إصدار القانون والظروف الدولية غير المؤاتية لمثل هذه المخاطرة.
امّا اليوم فتقول التقارير الواردة من واشنطن إنّ عدداً من مراكز الأبحاث ومعها المراجع المالية والإقتصادية في الإدارتين المركزية والفدرالية الأميركية أطلقت سلسلة من التحذيرات جرّاء تطبيق القانون لِما سيكون له من إساءة الى الإقتصاد الأميركي قبل البحث في ما يلحق بالاقتصادات الأخرى من الدول المُحتمَل ان تكون متورطة في الأعمال الإرهابية، خصوصاً انّ القانون صدر قياساً على التقارير التي اتهمت السعودية بتورّطها في تمويل الجماعات الإرهابية التي نفّذت أحداث 11 أيلول.
وعليه، بدأت مجموعة من اعضاء الكونغرس البحث في إجراء بعض التعديلات الأساسية التي تجمّد بعضاً من مفاعيل القانون بعد التهديدات التي أطلقت من الرياض ومجموعة من دول مجلس التعاون التي عبّرت عن تضامنها مع المملكة وتركيا التي ناشد رئيسها رجب طيب اردوغان الكونغرس العودة عن قراره بأسرع وقت ممكن وتجميد العمل به قبل ان تضطر هذه الدول الى الرد بالمِثل دفاعاً عن النفس بالدرجة الأولى، وتالياً بتحميل الإقتصاد الأميركي تبعات الإساءة الى دولة لها علاقات استراتيجية مالية واقتصادية وعسكرية مميزة مع واشنطن، وهو ما قد يعيد شبح الأزمات المالية التي عانتها الولايات المتحدة العام 2008.
ولذلك قالت المراجع المالية انّ المملكة ونظيراتها من دول مجلس التعاون الخليجي هي التي رفدت الإقتصاد الأميركي باستثمارات بالغة الأهمية قُدّرت بعشرات المليارات من الدولارات في أزمة العام 2008 فجنّبت إفلاس المصارف والبنوك والمؤسسات الإستثمارية العقارية بعد إفلاس مصرف «ليمن» من دون ان ننسى ما عكسته هذه المبالغ من استعادة بنوك ومؤسسات أخرى لتوازنها المالي ومنها مصرف «سيتي بنك» ومؤسسة «ميري لانش» كما بالنسبة الى شركة «جنرال موتورز» العملاقة.
والى هذه القطاعات التي ستتأثر بالعقوبات الأميركية ستعاني اسواق تجارة وصناعة الأسلحة مآزق كبيرة في دولة مصنعة واخرى مستوردة كالسعودية التي عقدت صفقات تجاوزت 119 مليار دولار في السنوات السبع الأخيرة عدا عن أرصدتها في البنوك الأميركية التي تجاوزت 820 مليار دولار والمَسّ بعشرات من المليارات في مجال التبادل التجاري والصناعي والنفطي والغذائي الذي يتجاوز 137 مليار دولار سنوياً عدا عن حركة رجال الأعمال والطلاب السعوديين المقدّرة بوجود اكثر من 125 ألفاً منهم يقيمون في الولايات المتحدة ويترددون عليها سنوياً، هذا عدا عن تأثر الإستثمارات المشتركة بين متموّلين من البلدين في اكثر من دولة في العالم في المجالات النفطية والصناعية وإدارة المصارف والمرافىء والمطارات والقطاعات السياحية والمالية والطبية الذين يديرون اكثر من 60 تريليون دولار.
وفي خضمّ هذه المعطيات ثمّة من يتساءل: ألم يدرك اعضاء مجلسي النواب والكونغرس كل هذه الحقائق والمعطيات عند البحث في القانون وقبل إقراره؟ وهل هناك مَن استدرجهم ليورّطهم في مثل هذه المخاطرة؟ وهل كانوا جميعاً في غفلة من الترددات السلبية المتوقعة لمثل هذا القانون قبل ان يستيقظوا على هذا الواقع الصعب في وقت قياسي؟
من السذاجة البحث عن أجوبة على مثل هذه الأسئلة في دولة مثل الولايات المتحدة، لكنّ الواقع يقول انّ في إقرار القانون الكثير من الارتجال والكيد السياسي واستغلال لعواطف أهالي آلاف من ضحايا 11 أيلول في آن. وهو الذي عبر كل المراحل في أوج التصعيد الذي واكبَ الإنتخابات الرئاسية الأميركية وما بين واشنطن والرياض على خلفية الأزمة السورية والانتقادات السعودية القاسية بحق الإدارة الأميركية التي تنامت بعد خلافهما حول الملف النووي الإيراني الى ما هنالك من الملفات العالقة بين البلدين.
وعلى رغم ذلك ثمّة من يعترف انّ وراء إعادة البحث في القانون الجديد تحذيرات من دول ومجموعات مالية كبيرة رأت انّ ما جرى اليوم بحق المملكة، بما فيه من تجاوز للقوانين والمعاهدات الدولية، سابقة خطيرة قد تتكرر في ايّ وقت وبحق ايّ دولة او مجموعة إقتصادية ومالية أخرى، وهو ما يجب وَقفه من اليوم على قاعدة «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».