حين أصبح ملفّ النفايات في لبنان قضية وطنية، تقوم حولها حركات احتجاجية وشعبية، وتأسر اهتمام السياسيين والإعلام، وصار أغلب من حولي خبيراً بيئياً، لم أحاول، بداية، دراسة الملفّ بجانبه التقني، ومطالب وادّعاءات المجموعات البيئية والسياسية المختلفة، بل قبلتها «على الثقة»، وكان التركيز الأساسي على المغزى السياسي للأحداث. من جهةٍ أخرى، ولأنّني لا أثق بأغلب المذكورين أعلاه، فقد كان من الواجب أن أطّلع، ولو بشكلٍ سطحي، على الملفّ وتفاصيله والمقترحات التي تم تقديمها.
فاصطدمت بمجموعة من الوقائع تتناقض مع الخطاب السائد حول المسألة (والمشكلة أنها ساطعة وواضحة، عمومية ولا تحتاج الى اختصاص، ومن المفترض أن كلّ من يكترث لهذه القضية يعرفها) الى درجة أنني اضطررت الى استشارة أكثر من خبيرٍ وأكاديمي، حتّى يؤكدوا لي أنّ الحجج الواردة في هذا المقال صحيحة وبديهية، وأنّه ليس هناك من خطأ أو سوء فهم في الموضوع.
خرافة المطامر
بمعنى السياسات والمطالب، من الممكن تكثيف الشّعار الأساسي لـ»الحراك»، في مقاربته لقضية النفايات، بكلمتي «لا للمطامر» (وقد أُضيفت اليها، في ما بعد، «لا للمحارق»). الادّعاء المتكرّر هنا هو أنّه توجد «مؤامرة مطامر» تُحاك ضدّ الشعب اللبناني، وأنّ المطمر هو حلٌّ غير بيئي وخطير ويهدد حياة مجاوريه وطبيعة لبنان؛ ومن الواجب، اذاً، أن نعتمد حلولاً «مسؤولة» و»بيئية» تعتمد على التدوير والاسترداد. عمليّاً، حين تقفل الباب على المطامر، فأنت تطالب بمعالجة واسترداد 100% من النفايات اللبنانية أو ما يقاربها، وهو ــــ ايضاً ــــ شعارٌ وهدف تكرّر على لسان الناشطين والجمعيات.
من داخل السياق اللبناني، تبدو هذه المطالب طبيعية وحميدة، فإعادة التدوير هي، من دون شك، أمرٌ جيّد، وقد تحوّلت المطامر في الخطاب اللبناني الى «تابو» بالفعل، إذ أننا نسمع منذ أشهر، من ناشطين ومن «خبراء»، أنها تدمّر البيئة و»تسبب السرطان»، وأنّ من حقّ من يقرّ مطمرٌ في منطقته ــــ بل من واجبه ــــ أن يعترض وأن يحتجّ وأن يمنع خططاً كهذه، دفاعاً عن حياته وحياة أولاده. المشكلة الأولى هنا هي أنّ هذه الفرضية ــــ التي كُرّست في لبنان كـ»بديهية» ــــ لا تتّسق مع الرأي العلمي والتجربة والأدبيات المعتبرة في المجال. حتّى نختصر: الإجماع العلمي اليوم هو أنّ ما يسمّى بـ»المطامر الصحية» هي حلٌّ سليمٌ بيئياً إن نفّذ ضمن شروطه المعيارية، وهو الأكثر اعتماداً في الدول الثرية، ويسمح بمعالجة النفايات واستخراج الغاز منها، ومن ثمّ إعادة استخدام الأرض أو تحويلها الى حدائق أو زراعتها في المستقبل (وفي لبنان، حيث شوّهنا أكثر جبالنا عبر الكسارات والمقالع، مواقع مثالية لهذا التطبيق). وهذا ليس كلاماً يحتمل الجدال وحوله تساؤلات ومؤامرة، بل نحن نتكلّم عن أبحاثٍ منشورة وتجارب عملية عمرها عقود، وتتضمن آلاف الحالات حول العالم، لم تنتج المطامر الصحية فيها سرطانات ولا أفسدت البيئة ولا سبّبت أوبئة، وأكثر ما يُقال للجمهور في لبنان غير ذلك هو تضليلٌ ــــ بكلّ ما للكلمة من معنى.
«المطامر الصحية»، حتى لا ينخدع أحد، هي ايضاً حلُّ مكلف ومتقدّم، ويحتاج الى متابعة وعملٍ لسنوات طويلة؛ وأكثر الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل ترمي نفاياتها، ببساطة، في مكبّات مكشوفة (للمقارنة، المطمر يكلّف أربع أو خمس مرات أكثر من المكبّ، والحرق ــــ الذي لا يعجب البعض في لبنان ــــ يعني أضعاف كلفة المطمر!). في لبنان، مشكلة مطمر الناعمة الشهيرة ليست في أنّه مطمر، بل في أنّه أعدّ للإستخدام لمدة عشر سنوات، فظل في الخدمة سبعة عشر عاماً، وفي أنّه صمّم لاستقبال مليوني طنّ، فكُدِّس فيه أضعاف هذا المقدار، وتمت توسعته بطريقة غير مدروسة وغير قانونية. ولكن القفز من حالة الناعمة للإستنتاج بأنّ المطامر، كتقنية، هي مسألة خطيرة وغير بيئية، وأنّ علينا منعها وتدوير 100% من نفاياتنا، فهذا مثالٌ مدرسي عن المغالطة المنطقية.
سياسات بلا منطق
المشكلة الأكبر هي حين نقارب الموضوع من وجهة نظر مقارنة: هل تعرفون، مثلاً، ما هي نسبة إعادة التدوير في بلدٍ كأميركا؟ بعد عقود من الجهود والتشريعات والإنفاق، تعيد الولايات المتحدة، بحسب أرقام 2012، تدوير أقل من 34 في المئة من نفاياتها الصلبة (النسبة كانت 24 في المئة عام 1994)، وأكثر الباقي يذهب الى مطامر صحية ــــ وهذا في بلدٍ متقدّم ليست فيه مشاكل كهرباء وبنى تحتية وتنمية. هل تعرفون أنّه، في حاضرة كبرى وثرية كنيويورك، كان جزءٌ مهمٌّ من نفايات المدينة، الى عهدٍ قريبٍ نسبياً، يوضع ببساطة على سفنٍ ويُرمى في مكبّ مكشوفٍ على جزيرة تبعد أميالاً قليلة عن مانهاتن؟ لا تجد نسب استرداد تفوق الخمسين في المئة الّا في بعض دول أوروبا الشمالية، وخارج هذا الإطار تكون خيارات الدول عادةً بين المكبّ والمطمر، وليس بين الإحراق والتسبيخ: بحسب أرقام البنك الدولي، أكثر الدول العربية تتخلص من نفاياتها في مكبّات مكشوفة، ومثلها الصين؛ والكيان الصهيوني جنوبنا يعيد تدوير أقل من عشرة في المئة من نفاياته، والباقي يذهب الى المطامر (مثله مثل اليونان وقبرص والمكسيك، ودول كثيرة أكثر ثراءً منّا).
إجماع علمي على أنّ «المطامر الصحية» حلٌّ سليمٌ بيئياً إن نفّذ بشروطه المعيارية وهو الأكثر اعتماداً في الدول الثرية
في أكثر البلدان، لا يشكّل موضوع النفايات همّاً وطنياً ولا يكلّف المبالغ الطائلة التي جرى ــــ ويجري ــــ الحديث عنها في لبنان؛ والمعنى العملي لما تطالب به جماعة «لا للمطامر» هو أنّه، بدلاً من أن يكلّفنا الملفّ ثمانين أو مئة مليون دولار، فهو سيكلف أكثر من نصف مليارٍ في السنة، ندفعها الى الأبد (وهو مبلغٌ يكفي، خلال بضعة أعوام، لحلّ مشكلة الكهرباء مثلاً، وقس على ذلك).
هل تدوير النفايات أفضل من المطامر؟ قطعاً. ولكنّك حين تدخل الى الساحة العامّة، وتطرح مطالب تتعلّق بسياسات تمسّ كلّ الناس، فإن المسألة تقاس بمنطق الأولويات والحرص على الموارد المحدودة. ومطلب البعض بمنع المطامر وأن نسبق الدانمارك في إعادة التدوير هو، إن تحقّق، ليس مجرّد تضييع للأولويات، بل جريمة حقيقية في حقّ لبنان والإقتصاد والبيئة. هم يريدوننا، فعلياً، أن ننشىء البنية التحتية لإعادة تدوير كامل نفايات البلد، وهي ستفوق المليار دولار كلفةً، ثمّ إنفاق أكثر من نصف مليارٍ سنوياً لتشغيل هذه العملية. يقول البنك الدولي إن الدول المنخفضة الدخل ــــ 38 دولة ــــ أنفقت، مجتمعة، ملياراً ونصف مليار دولار على معالجة نفاياتها. ويريدون لنا، في لبنان الصغير، أن نرصد ثلث هذا المبلغ سنوياً. هل تتخيلون المشهد السوريالي الذي سيواجهنا لو تحقق ما يريدون ووجدنا لبنان، بعد سنوات، بلا كهرباء ولا خدمات والبطالة تعمّه، ولكنّ فيه ــــ حمداً لله ــــ نظاماً رائعاً لإدارة النفايات، لا مثيل له في ألمانيا! ماذا سيحصل لهذا النظام المعقّد لجمع النفايات وفرزها وتدويرها اذا ما أفلست الدولة اللبنانية وعجزت عن تمويله، أو وقعت الحرب الأهلية، أو هاجمتنا اسرائيل (وهذه، في لبنان، ليست سيناريوهات خيالية أو مستبعدة)؟ حين تتوقف هذه الماكينة عن العمل، ستتراكم النفايات فوراً في الشوارع، كما يحصل حالياً، ولن يكون هناك من بديل. ولمن يخشى أن تعيد الدولة تجربة مطمر الناعمة وتجاوزاتها، هل تعرفون ما سيحصل لو مورست التجاوزات ذاتها على معامل التدوير والتسبيخ؟ ومن يدعو الى التسبيخ والتخمير الهوائي كحلٍّ بيئي بديل، هل يعرف عن الماضي الإشكالي لهذه التقنية، والمشاكل البيئية والصحية التي تسببت بها، وعن الرفض الشعبي لها حيثما جُرّبت؟ الطريف هنا هو أنّ هيئة بيئية لبنانية، حين أرادت أن تترجم هذه الشعارات الى خطة عملية، خرجت بمشروعٍ يدعو الى التسبيخ ثمّ الطّمر، أي أن نستخدم تقنيتين عاليتي الكلفة سوية، بحجّة أن ذلك «يحسّن» مستوى النفايات ويسهّل طمرها الآمن (لماذا لا نغطي المطمر، بعد كلّ هذا، بقشرةٍ من الذهب؟).
نظرية مؤامرة
للأمانة، هناك من انتبه الى هذه الإشكاليات الواضحة. الزميل بسام القنطار نبّه مراراً ــــ مع أنّه كان من روّاد الهجوم على المطامر ــــ الى عدم واقعية ما تطرحه المجموعات، والزميل حبيب معلوف في «السفير»، مع أنّه لا يمكن المزايدة على التزامه البيئي، يعرف الفرق بين ما هو معقول وما هو غير معقول؛ ولكن هذه التوضيحات طغى عليها جو المزايدات السياسية والشعار الذي صار مكرّساً: «لا للمطامر». المسألة هنا تتعدّى السذاجة أو قلّة المعرفة أو «المثالية البيئية»، بل إنّ هناك اتهاماً واضحاً يجب أن يوجّه لمجموعة لم تعد صغيرة من «الخبراء» و»المستشارين» في مجال البيئة والنفايات (حتى لا نتكلم على أصحاب الطموحات السياسية)، لا يريدون لهذا الملفّ أن ينتهي بسرعةٍ وبكلفةٍ قليلة، بل من صالحهم أن تتحوّل النفايات الى «صناعة»، قيمتها مئات ملايين الدولارات، ومصدراً دائماً لوظائفهم واستشاراتهم ورواتبهم.
أمّا مجموعات «الحراك» وقادته، الذين صاغوا هذه المطالب والشعارات وسوّقوا لها وطالبوا الناس بالسير خلفها، فمن المناسب أن نذكّرهم بأنّه، في السياسة، هناك أمور اسمها تقييم ومراجعة ومسؤولية؛ وبهذه المقاييس وبواقعية، فإنّ حركتهم («كلّها يعني كلّها»، من «أبو رخوصة» الى «العصيان المدني»، ومن بيار حشاش الى أسعد ذبيان) كانت الفعل الوحيد، على طول السنوات الماضية، الذي عزز شرعية النظام الفاسد وقوّى حجّته، بدلاً من أن ينتقص منها. كلّ انتفاضة وأنتم بخير.