تتهاوى أوراق التوت عن جسم الدولة المُنهَك أصلاً من سلسلة الأزمات التي أطبَقت على لبنان في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وبعدما فشلت الطبقة السياسية في استيلاد الحلول لأزمة الشغور الرئاسي المتمادية وتعطيل مجلس النواب القسري، جاء دور الحكومة، آخر المؤسسات الرسمية الناشطة في تسهيل أمور المواطنين لتدخل دوّامة التعطيل من دون التطيير، كما أوضح الفريق العوني وحلفاؤه في أكثر من مناسبة، فالهدف هو فرض جدول أعمال وآلية تخدم مصالح فريق مُعيّن وأجندته الخاصة، بغض النظر عن أولويات الوطن التي باتت أكثر من ملحة.
لقد تعوّد اللبناني على تأمين احتياجاته الحياتية اليومية من ماء وكهرباء بشكل فردي، إلى أن استجد الأمن الذاتي الذي فرض نفسه بقوة على مختلف شرائح المجتمع بسبب الانفلات غير المسبوق وارتفاع نسبة الجريمة في ظل غياب المساءلة والمحاسبة الحاسمة، وانصياع القضاء للأهواء السياسية والتدخلات والمحسوبيات في تطبيق القانون.. فالمجرم حُرّ طليق والضحية ذكرى مريرة للمجتمع وحسرة أبدية في قلب أهلها ومحبيها.
أما النفايات، فهي الصدمة الجديدة التي استفاق اللبناني على اجتياحها لشوارعه وهوائه وما تبقى من حسّه الحضاري! إلا أن هذه المشكلة لا يمكن أن تحل بشكل فردي أو حتى مناطقي، لأن النفايات، وما يرتبط بها من مشاكل بيئية وإعادة تدويرها والحلول الجذرية المطلوبة لها إنما هي مسألة وطنية بامتياز، ولا يمكن للعاصمة أن تحمل أعباء الوافدين إليها من المناطق والجوار وقمامتهم وتقدم لهم العمل والمسكن وما إلى ذلك، ثم تترك إلى مشاكلها تواجهها وكأنها كانتون مستقل، بما أن أبواب الحلول المطروحة في المناطق مغلقة أمامها.. خاصة أن القضية انتخابية بامتياز، حيث استفاق النواب والزعماء وانتفضوا ضد تصريف النفايات في المناطق النائية على أنها قضيتهم وأنهم حماة الشعب من الخطر الداهم!
إلا أنهم ونفاياتهم السياسية هم الخطر الحقيقي على الوطن برمته، ولم يعد التحدّي بتحسين الأداء السياسي بل بالمحافظة على الحد الأدنى منه حتى لا يكون الشلل كاملاً في كل مؤسسات الدولة ومرافقها.
وبغض النظر حول الآلية المتبعة في مجلس الوزراء إلا أن الأساس يبقى بالحفاظ على الدستور وعدم المس بصلاحيات رئيس الوزراء.
إن تمرير الجلسة البارحة بأقل ضرر ممكن أعطى بعض الأمل بإمكان إيجاد مخارج معقولة للأزمة السياسية الخانقة.. أما الأزمة المعيشية الكارثية فسوف تحتاج للكثير من الأخذ والرد حتى يتم تدوير الصفقات، بدلاً من النفايات، وتقاسم المغانم وإيجاد الحلول الجذرية التي تراعي البيئة، شأننا شأن أدنى البلاد حضارة، لأننا اليوم في لبنان، نعيش حالة انفصام حادّة في طبقة حاكمة تعيش أعلى درجات الرفاهية بأغلى الأثمان من جهة، ولكنها غارقة في القمامة حتى أذنيها.. فهل ستنجح في إخراج هذه الأزمة من عنق الزجاجة أم ان الصفقة لم تستوِ بعد؟
إن أرتال النفايات المكوّمة في شوارع بيروت لا تعكس صورة أهلها الحضارية المنفتحة على الجميع، إنما تعكس صورة طبقة سياسية فاسدة ذات صفقاتٍ ملوّثة!