هذا الصيف كأنه ملعون، بثلاثية النفايات التي لا تعرف حلاً، وأزمة اضمحلال «كهرباء الدولة»، وعربدة درجات الحرارة.
بدل الاعتقاد الذي عشّش في السنوات الأخيرة بأن عيناً خفية، «دولية» أو «غيبية» و «سحرية» – أو من كل هذا، تحفظ البلد من نار الحرائق السورية والمشرقية، يغلب اليوم الشعور الفطري بأنّه لسبب أو لآخر، هذا البلد، متروك «سلماً أو حربا»، الى «وقت حاجة».
يبقى أن البلد يواجه أزمة فعلاً «ثورية»، وربما لأول مرة في تاريخه. وهي مشكلة قطاع النفايات. هي مشكلة تتقاسم مع المشكلات الأخرى من مثل «سلاح حزب الله» و»شغور منصب رئيس الجمهورية» و»انعدام قانون الانتخاب» و»اضمحلال كهرباء الدولة» بأنها ذات سمة مستعصية. وتتميز ثانوياً عن المشكلات الأخرى بإمكان ترقيعها ليوم أو يومين، ثم تعود فتبرز الى السطح مجدداً. في حين أنها تتميز بشكل رئيسي عن المشكلات الأخرى في أنّه لم يعد لها بكل بساطة أي حل ممكن في «لبنان كما نعرفه»، وترقيع مشكلة النفايات من الآن فصاعداً لا يشبه في شيء إمكان «التسكين المؤقت» لمشكلات الاستعصاء الأخرى. يمكن تسكين مشكلة سلاح الحزب مؤقتاً بطاولة حوار، بصلح دوحة، بذهابه للقتال في سوريا، بتشكيل حكومة معه، الخ الخ.. يمكن تسكين مشكلة الفراغ الرئاسي بالعمل الحكومي، بمرجعية بكركي، بشعبوية ميشال عون، الخ الخ… يمكن تسكين مشكلة الانتخابات النيابية بالتمديد للمجلس مرة ومرتين وثلاث الخ الخ… لكن مشكلة قطاع النفايات يمكن ترقيعها بسرعة أكبر وسيظهر الثقب بشكل نافر أكثر في اليوم التالي. المشكلة تكبر، وآخر ما كان يحمي «لبنان الحالي» من الانفجار الاجتماعي العارم لهذه المشكلة كان «المجتمع المدني». اليوم المشكلة تكبر، وستنفجر بشكل أو بآخر، لأنها ببساطة ليس لها حل، وتأتي بعدها في المرتبة على هذا الصعيد مشكلة الكهرباء.
شباب «المجتمع المدني» غاضبون على «الطبقة السياسية» ويعتبرون انهم يمثلون في ذلك غضب اكثرية اللبنانيين في حين يتميزون عن بقية الناس بأنهم «يتحركون» ولا يكتفون بالقعود والتذمّر. من هذه الجهة هم أكثر جذرية من سواهم. لكن من جهة ثانية، هم متطوّعون لانقاذ «لبنان كما نعرفه قبل انفجار مشكلة النفايات بعد اغلاق مطمر الناعمة». يدعون لانقاذه بطرح حمولته الزائدة، الطبقة السياسية، جانباً، والفرز من المنزل للنفايات، ثم، بالنتيجة، يمكن انقاذ الدولة المركزية، لا بل وزيادتها مركزية واقتداراً.
في المقابل، «المجتمع الاهلي» في هذه المنطقة او تلك عبّر عما هو اكثر جذرية وبشكل مرتبط بالعيش في نطاقه المحلي مباشرة: رفض اهالي برجا وعين داره ان ينكبوا بنفايات لا يعرف كيف ستعالج وبأي شروط بيئية وصحية وبأي امبراطوريات مالية تشاد فوقها في وقت ستتسبّب هذه النفايات بإفقارهم هم. هذه التحركات صحية للغاية، لانها تذكر بالحقيقة التي يراد تناسيها دائماً: البلد هو مجموع مناطقه، ولا ميثاق وطنياً حقيقياً بلا عقد اجتماعي حقيقي والعقد الاجتماعي الحقيقي هو عقد جغرافي بين مناطق مسكونة ومعاشة، ومن هذه الزاوية بالذات هو عقد بيئي.
أزمة النفايات الحالية ليست مسألة «فرز منازل» أو «فرز طبقة سياسية» فقط. انها أزمة متأتية من انتهاء ما كان يقوم مقام العقد الاجتماعي الى حين اقفال مطمر الناعمة. عقد اجتماعي مزوّر، بالاكراه، بالحيلة، بالتأجيل، بالالهاء، قل ما شئت. لكن شيئاً يشبه سراب العقد الاجتماعي كان لا يزال قائماً حتى انفجار المشكلة الحالية. اليوم هذا أصبح وراءنا. وما نتفرج عليه جميعاً هو الكيفية الهزلية التي تساق فيها الشعارات السياسية المكررة والرمزيات البالية لطمس هذه القضية عبثاً. هو معجم كريه يفني نفسه بنفسه أمام أعيننا ومسامعنا. لا حل لمشكلة النفايات .. فلنطمئن.