تُرفَع القمامة من بيروت وتُوزَّع بالتساوي على المناطق، ويُنثر بالعدل ريعها على جيوب المستفيدين. أزمة النفايات سهلة الحل تقنياً، الشركة المختصة قادرة على إنجاز عمليات التنظيف في يوم واحد، وتختفي الرائحة. ما يبقى في الأنوف انبعاثات مشتقات أزمة النفايات، أي المعنيين من زعماء وسياسيين وتقنيين، ومجتمع مدني تنطّح لحل الأزمة.
جبال النفايات التي ارتفعت بين اللبنانيين، لم تأت من عدم. وبالتأكيد لم ترتفع بسبب إقفال مطمر، او انتهاء عقد متعهّد التنظيفات. الجبال ارتفعت بسبب أطنان النفايات الأخلاقية والفكرية المستوطِنة في عقول أركان النظام في جمهورية الفساد والإفساد.
عرّت نفاياتنا النظام من آخر ورقة توت يستر بها عجزه. المسألة لم تعد مسألة خيارات وطنية، بل مسألة سقوط دولة وإعلان نهايتها. جبل النفايات بدأ بالنمو مع انتهاء الحرب الأهلية على غفلة، وقبول اللبنانيين بعدم فتح المحاكم لمحاسبة مجرمي الحرب، تعويضاً لعشرات آلاف الضحايا الذين سقطوا عبثاً، ولنؤكد لهم أننا لن ننسى كي لا تتكرر الحرب.
انعدام المحاسبة جاء بكلفة عالية، عبر إكثار المشاريع لعُمْي الأبصار، بأموال إعادة الاعمار، وتوزيع الأمل الكاذب بجنات الحداثة والاقتصاد وسياحة ملايين المسافرين والعقود الخيالية التي مرقت من دون حسيب، من الخلوي الى المطار واوتوسترادات الجنوب والكهرباء وسوليدير ووادي الذهب في وادي أبو جميل، وصولاً الى النفايات والردميات وأموال جباية التسوّل بعد كل عدوان إسرائيلي.
لم يكتفِ اللبنانيون بالتسويات المالية لطي صفحة الحرب، بل ارتضوا لأنفسهم تسويات سياسية أمنية راكمت النفايات. حوّلوا عن سابق تصوّر وتصميم سلاح المقاومة الشرعي الى شمّاعة يعلقون عليها سلاح الزواريب والمخيمات ومحميات التهريب على الحدود. السلاح غير الشرعي فرّخ كانتونات أمنية وشركات حماية، وقتل قضاة وعسكريين، وتحوّلت نفايات السلاح الى حاميات طائفية ومذهبية.
ارتفعت النفايات مع قوانين الانتخاب التي تناسلناها من قبل الحرب وألقينا باللوم على الوصاية السورية لما أنتجته من نواب. وظللنا لعقود نتنعّم بخيرات صناديقها وحدود الدوائر المركبة على قياس اللوائح التي سُمّيت، في لبنان فقط، بالبوسطات (حافلات).
وليس بالسياسة والاقتصاد وحدهما تنمو المزابل، بل بالتربية والتعليم والجامعات المنتشرة كالفطر، على حساب التعليم الرسمي، وتزوير الامتحانات، وتعيين جهلة في مناصب أساتذة، وشرشحة المعلمين في تظاهرات على الطرقات سعياً وراء فتات لم يحصّلوه، وصولاً الى توزيع الإفادات بدلاً من الشهادات في زمن السلم الكامل، وحكومة الأقطاب الرؤساء.
قبل ارتفاع محاور النفايات بين اللبنانيين وبين حسّهم الوطني ومسؤولياتهم المدنية، ترهّلت الدولة وانحلّت، وبات النظام عبئاً على نفسه. لم يعد قادراً على إنتاج خطوط دفاع بينه وبين رعاياه. بات القتل رياضة يومية، والفضائح لا تجد من يحقّق فيها أو يسأل عنها. صارت أخبار سرقات أركان النظام وعقودهم وتعييناتهم ومحاصصاتهم، وصولاً الى جوازات سفرهم المزورة، على كل شفة ولسان، ومع ذلك لم يُعنَ زعيم واحد بيوميات الناس. عاش اللبنانيون اشهراً من دون كهرباء، وشربوا المياه الآسنة، بل مياه المجارير، وأكلوا الطعام الفاسد وتناولوا الدواء المنتهية صلاحيته، وسقط أطفالهم على أبواب المستشفيات، ونُهبت المشاعات، وكله موثق بالأدلة العينية والوثائق الرسمية، ولم يحركوا ساكناً حماية للّص الأول في المذهب والطائفة.
هي نهاية النظام، ونهاية المواطن.. النفايات تليق بنا.