IMLebanon

قرية مرصودة سكانها جنّ وعفاريت… أهلاً بكم في “وطى صفرتا”

 

 

آخر بيت في القرية أُقفِل قبل 65 عاماً

 

 

خلناها قصّة من قصص ألف ليلة وليلة عن قرية لبنانية، في بلاد البترون، مسكونة بالعفاريت والجنّ. ذهبنا إليها ونحن نضحك، وعدنا منها ونحن مليئون بالدهشة وبألف سؤال وسؤال. هناك من نصحنا أن نتراجع عن هذه المغامرة. فهل نفعل؟ عفاريت السياسة اللبنانية لم تخفنا فهل لعفاريت قرية «وطى صفرتا» مفعول معاكس؟ في آخر أيام أيلول، وقبل غياب الشمس، جلنا في القرية – اللغز. صعدنا سلالم ونزلنا سلالم ودخلنا الكنيسة الوحيدة المهجورة التي غادرها آخر كاهن في ستينات القرن الماضي. فلنذهب معاً إلى وطى صفرتا.

 

في جنبات دير جربتا الهادئ بين التلة والوادي قرية منسية. لا ناس فيها فقط جنّ. نبحث عنها مثلما يبحث إنسان عن إبرة في كومة قش. نستعين بالباحث نبيل يوسف فيدلنا على الطريق. هناك عند لفّة كوع، طلعة قاسية لجهة الشمال، تصعدون منها «طلوعاً طلوعأً» الى وطى صفرتا (أو وطا صفرتا كما يكتبها البعض). هي طريق ضيقة متعرجة تظللها أشجار الكينا وهواؤها ينساب عليلاً. عين المياه التي كان سكان وطى صفرتا يشربون منها ذات يوم جفّت. نعبر في طريقنا مسالك ترابية ونشم رائحة ابقار. هنا أنشأت راهبات القديسة رفقا مزرعة بقر. تسدّ الطريق أمامنا. نحاول أن نتابع بصعوبة مشياً فيعترضنا كلب كبير ينظر إلينا بشزر ويجعلنا نهرول الى الوراء. نعود ونأخذ طريقاً آخر نصل منها الى القرية المليئة بالاسرار. نستعين مجدداً بنبيل يوسف فيأخذنا عبر طريق آخر. ثمة بوابة حديدية خضراء. نعبرها. نصل الى بواية ثانية سوداء. ندخل منها فنصبح في قلب وطى صفرتا.

 

صمت وصدى

 

ها نحن في قلب قضاء البترون، في قرية يحوطها قديسون، فهل يعقل أن نعتقد بوجود عفاريت ورصد وجان؟ لا إنسان نستنجد به بمعلومة. هدوء هائل. نركن سيارتنا الى جانب سيارة أودي قديمة، دواليبها الأربعة على الأرض، معلقة عليها كنزة عتيقة نسيها إنسان، وننزل. أوراق الشجر تكاد تخفي ما تبقى من زفت. كراسٍ مرمية بشكل عشوائي. ووحدها مناشف بيضاء منشورة أمام منزل مهجور تجعلنا نأخذ نفساً. لكن، هل يمكن أن يكون هناك من نشرها وسط كل هذا الغبار؟ ننادي فلا يجيبنا إلا الصدى. نفتح باباً خشبياً فنرى باباً خشبياً آخر موصداً بإحكام وعليه فتحة صغيرة موصدة أيضاً. نفتحها فنرى في قلب العتمة أغراضاً مبعثرة فنتأكد أن لا أحد في المكان. ننزل الى الحرش المحاذي. نتعثر مراراً. نعبر أكوام قش بانتباه خوفاً من مصيدة نسقط فيها. نتابع نزولاً فنصل عبر أدراج حجرية كانت في ما مضى مسالك لبشرٍ سجلت على هوياتهم: مواليد وطى صفرتا. وكان يا ما كان.

 

هناك، عند أحد المنحدرات كنيسة. نتعرف عليها من جرسٍ صدئ مركّز على قطعة حديدية. ندقه فيرتفع صوته في المكان فنشعر ببعض السلام. باب الكنيسة مفتوح. إنها كنيسة مار آصيا. هنا، في المكان، كان يوجد دير دُمّر بالكامل في إحدى الغزوات لكن الكنيسة عادت وبُنيت على أنقاضه. نحني رؤوسنا لندخل من باب الكنيسة الصغير. عتمة في المكان. ولا شيء أبداً يوحي بأن إنساناً قد دخل قبلنا منذ وقت طويل. ستة مقاعد خشبية تتراكم عليها الأتربة. وكرسي اعتراف منسيّ. وتمثال للسيدة العذراء في الجوار وبعض الشموع موضوعة على المذبح وبجانبها صلاة. إنها صلاة الوردية بلغاتٍ مختلفة. جرن حديدي. صليب وبراغٍ مرمية. نتكلم بصوتٍ خافت فنسمع صدى ما قلناه عالياً. نتلو الأبانا والسلام فنستمد من صلواتنا قوّة في مواجهة غموض المكان.

 

نخرج من الكنيسة وننظر الى أعلى، صوب رؤوس الأشجار اللامتناهية، فنرى الشمس تسطع قوية. صوت خربشات الورق تحت اقدامنا يثير فينا الذعر أحيانا. ننزل في منحدر مليء بورق الشجر فيغرز في أقدامنا العلّيق ويترك ندوباً. نتابع مسارنا صوب بيت سفلي آخر مهجور في القرية. هو بيت كانت فيه حياة وناس وآمال وأحلام وتحوّل الى ما يُشبه الزريبة. صوت خرير مياه يشتدّ. نلحق الساقية فنراها مزروعة بأباريق فخارية مهشمة بمعظمها. نلتفت يميناً ويساراً فنتأكد أننا في منطقة لا تشبه سواها.

 

البلدة الملعونة

 

وطى صفرتا قرية خلابة بطبيعتها ومليئة بالألغاز الشعبية. كانت جنّة فأصبحت بقعة متروكة للجنّ. فما حكايتها؟ الباحث نبيل يوسف يجيبنا بكلمتين: «إنها بلدة ملعونة». لكن، ماذا تعني ملعونة؟ يجيب: «لا تلد نساء وطى صفرتا إلا البنات ونادراً ما ولدن صبية، والبنات يتزوجن من خارج القرية ويرحلنَ. وعرفت وطى صفرتا نسبة نساء عاقرات لم تعرفها قرية أخرى. ويقال أن رصداً يسكن القرية يحرس كنزاً عمره مئات الأعوام. هذا الرصد (أو الجن أو العفريت) لا يرغب بأن يعكّر أيّ كان هدوءه فكان يمنع نساءها من الإنجاب أو لا يسمح سوى بولادة البنات وهناك الكثير من الروايات الشعبية عن ذاك الجن الذي كان يظهر للناس ليلا وهم يعبرون دورب وطى صفرتا في طريقهم الى قراهم فيخيفهم كي لا يعودوا إليها ثانية. يريد الجنّ أرض وطى صفرتا له وحده».

 

ننظر الى السماء مجددا. ننظر الى ساعة اليد لنتأكد أن الليل ما زال بعيداً خوفاً من أن تطل العفاريت. ننظر حولنا. ننظر الى الوراء ونعود أدراجنا الى الكنيسة ونقرع مجدداً الجرس عالياً نكاية بأسطورة باتت حقيقة أقله في الشكل في بلدة بترونية.

 

عقل نخلة، إبن بلاد البترون، يتحدث عن رصد على شاكلة «ساعور». هذا ما يُروى في الأساطير الشعبية. في الليل وفي الايام الممطرة يأتي الرصد. كان يسكنها ألف راهب وخوري. كانت فيها مكتبة ومخطوطات وشيخ صلح في العام 1900 كان يسكن فيها 35 شخصاً، في العام 1913، في الإحصاء العثماني، كان فيها 13 شخصاً. وبعد الحرب لم يعد فيها إلا ثلاثة أشخاص. وفي العام 1958 آخر بيت أقفل».

 

نجول وندور وننتقل من جلّ الى جلّ بحثاً عن أجوبة ليست موجودة لدى إنسان. المنطقة محصنة بالأديرة والقديسين. رفقا هنا. نعمة الله كساب الحرديني هنا. سيدة رامات ودير معاد هنا… في المسيحية أرواح شريرة وأرواح جيدة، هناك شياطين وملائكة، في وطى صفرتا وفي سواها، لكن لا أشباح. الرسل حكوا عن أشباح حين وجدوا ما لم يفهموه فافترضوا أنه شبح لكن يسوع كان يعرف الحقيقة. لكن، في الخرافات الشعبية أشياء وأشياء غير مفهومة وفي وطى صفرتا يتجلى ذلك.

 

ترتفع القرية 400 متر عن سطح البحر وتبعد عن البترون 11 كيلومتراً. واسمها سرياني الأصل ويعني البهية البراقة والضياء. وكانت تضم عائلات هي: أنطون وطنوس وملحم والجزار وطربيه ونصار. رئيس مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان سابقا جوزف طربيه من وطى صفرتا.

 

بعد انتهاء حرب 1914 في لبنان صمد في البلدة ثلاثة بيوت فقط هي، بحسب نبيل يوسف: «بيت شاهين بو عقل وهو شيخ صلح وكان لديه صبيان: آصيا توفي فتى ونخله الذي غادر القرية وسكن في جران. وله ابنتان هما: ميا وسميا تزوجتا من بلدة صغار. وأقفل بيت شيخ الصلح في وطى صفرتا. البيت الثاني، بيت طنوس ويضم ست بنات، أربع تزوجن وانتقلن الى بلدة جران والخامسة تزوجت من شاب من كور والسادسة كان عريسها من غوما. فأقفل البيت الثاني. أما البيت الثالث فكان بيت حنا فارس وهو من معاد تزوج ابنة عمته نزهة حنا طنوس وحيدة أهلها وسكن في بيت اهلها في وطى صفرتا. لم تنجب نزهة وحنا وبقي بيتهما طوال 33 عاماً المنزل الوحيد المفتوح في البلدة. وفي العام 1958 انتقل حنا، وهو في التسعين من عمره الى بلدة تحوم واقام في بيت شقيقته صوفيا فيما توجهت زوجته نزهة الى بلدة صغار. وهكذا أقفل آخر بيت في القرية منذ 65 عاماً».

 

إنها قرية ملعونة. أولادها لا يأتون إليها خوفاً من عفريت يلاحقهم أو قد يلاحقهم. نجول فيها. ثمة مسافات من بيت لبيت تناهز آلاف الأمتار. أهل وطى صفرتا كانوا ميسوري الحال. تركوا كل شيء، كل كل شيء، ورحلوا عنها. البيوت في الأرجاء تاريخية. ثمة بقايا أشجار لوز وعرائش عنب. وهناك عمال زراعيون قيل يأتون من حين الى آخر ويغادرون قبل المغيب. هواة الصيد يقصدون أحيانا القرية أيضا لكن جماعات خوفاً من أن يستفرد عفريت بأحدهم. ويحكى عن وفاة فتاة من آل مسعد منذ أعوام وهي على دراجة «آ تي في» في وطى صفرتا. السكان في المحيط موقنون أن عفريت الوطى لن يترك، من يتجرأ ويقتحم الأرض، بشأنه لهذا قرروا الّا يتحدوه. جوزف مسعد، والد الصبية، تجرأ فماتت ابنته في الوطى.

 

فيلم رعب

 

المناشف البيضاء معلقة. ولا انس في المنطقة. أمرها غريب. نفكر بذلك ثم لا نلبث أن نبتسم لما فكرنا به. نصعد على درج طويل رفيع فنعلق مجدداً بين العليق ونأكل نصيبنا من الندوب الإضافية. نقف على سطح عالٍ ونراقب بيوت وطى صفرتا من فوق فنرى طاولات وكراسي و»قعدات»- كانت غير شكل ذات يوم- تركها ناسها ورحلوا حتى من دون توضيبها. كأننا في فيلم رعب. ننحني تحت «عربيشات» الليف الكثيرة في الأرجاء. نسمع حفيفاً في الأرجاء فنهرع لنقف الى جانب بعضنا خوفاً من عفريت متخفّ. نعود لننظر مجدداً الى ساعة اليد والى قرص الشمس الذي بدأ يبهت لونه فنتيقن وجوب المغادرة.

 

نعود أدراجنا فنرى لمبة مضاءة في أحد البيوت. ننزل. نلقي التحية بصوتٍ عالٍ: يا عالم يا هو… ينطفئ الضوء. نقترب أكثر. الصمت مخيف. نصعد على درجتين فيستقبلنا كلب ذو انياب مسننة فنهرع عائدين الى مركبتنا وفي البال ألف سؤال وسؤال. ألا يقال: إن الافكار كالأشباح تخرج أكثر فأكثر من مخابئها ليلاً؟

 

يبقى أن هناك من يتربص إستثماراً بها. ثمة من يشتري أراضي وطى صفرتا ويتركها الى يوم يغادرها الجنّ. ويقال أن فنانين ومتمولين يحجزون لهم «مرقد عنزة» فيها بينهم (على ما قيل): جورج خباز ووائل كفوري. فمن يدري قد تتحول هذه القرية الملعونة في يوم ما الى قرية مجنونة بالحياة؟