على خطى الإفلاس الاقتصادي والمالي، يسير لبنان، بخطى ثابتة، نحو «الإفلاس المائي»، في ظل تراجع المتساقطات، وانخفاض حجم المياه المتاحة، وسوء الإدارة والتلوث اللذين يقلّصان حجم المياه القابلة للاستخدام
بحلول 2030، سيبلغ معدّل العجز المائي في لبنان نحو 920 مليون متر مكعب. هذا العجز سيؤدي ببلد لطالما تغنّى بـ«غناه» بالمياه إلى «إفلاس مائي»، لن يكون أقلّ سوءاً من الإفلاس المالي. والأسوأ، أن هذا الرقم مرشح للارتفاع بشكل كبير مع ارتفاع معدلات التلوث التي تجعل المياه القابلة للاستعمال أقل بكثير من المياه المتاحة، إذ أن المياه المتاحة تتطلّب، لكي تصبح صالحة للاستعمال، توافر استثمارات كبيرة في الإنشاءات، من أجل ضمان نوعيتها. ويزيد الأمور سوءاً الاستخدام الجائر (الحفر العشوائي للآبار مثلاً) للمياه الجوفية ذات الطابع الاستراتيجي، والتي تلعب دوراً أساسيّاً في تأمين الطلب، ما يوجب الحدّ من استنزافها والسعي إلى إيجاد نوع من التوازن بين استخراجها وتغذيتها.
أضف إلى ذلك أن التدنّي المتواصل في الحجم المتاح من المياه (مع تراجع المتساقطات) يُنذر، بما لا يبعث على الشك، باتجاه لبنان الحتمي نحو «الإفلاس المائي»، في ظل تقديرات بارتفاع الحاجات المائية في مختلف قطاعات الري والصناعة والاستعمال المنزلي من مليار و702 مليون متر مكعب سنة 2020 إلى 3 مليارات و150 مليون متر مكعب سنة 2050، على ضوء نمو سكّاني بمعدل 1.65 في المئة سنوياً (من 5 ملايين و400 ألف نسمة سنة 2020 إلى 8 ملايين و800 ألف سنة 2050).
هذه المعطيات أكّدتها دراسة تستشرف الحاجات المستقبليّة المائيّة في لبنان للسنوات الثلاثين المقبلة، أجرتها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، وأشرف عليها عميد كليّة الهندسة في جامعة القدّيس يوسف الدكتور سليم كتفاكو. الدراسة التي حصلت عليها «الأخبار»، استندت إلى تحليل معطيات الهطولات في منطقة البقاع بين سنتي 1931 و2019، وأظهرت أن هناك اتجاهاً سلبياً في الهطولات بمعدل 1,1 مليون متر مكعب سنوياً. كما بيّن تحليل معطيات التصريف، في الفترة نفسها، اتجاهاً سلبياً بمعدل 900 متر مكعب سنويّاً للكيلومتر المربّع للأنهُر الداخليّة، ونحو 4000 متر مكعب سنويّاً للكيلومتر المربّع للأنهر الساحليّة. هذا الاتّجاه السلبي في الهطولات والتصريف، يشير إلى تدنّ متواصل في الحجم المتاح من المياه، ما يستوجب دقّ ناقوس الخطر وإعادة النظر في السياسات المائية المعتمدة، والنظر في معطيات كميّات الموارد المائيّة المتاحة ومن ثم القابلة للاستعمال.
في المقابل، بيّنت الدراسة اتجاهاً تصاعدياً كبيراً في الحاجات المائية في مختلف المحافظات بين عامَي 2020 و2050، إذ سترتفع حاجات منطقة لبنان الشمالي للمياه في مختلف القطاعات (الري، الصناعة، الاستخدام المنزلي) من 460 مليون متر مكعب في عام 2020 إلى 825 مليون متر مكعب في عام 2050. وحاجات منطقة بيروت وجبل لبنان من 378 مليون متر مكعب إلى 570 مليوناً، والجنوب من 309 ملايين متر مكعب إلى 565 مليوناً، والبقاع (الأعلى مقارنة ببقية المحافظات) من 555 مليون متر مكعب إلى مليار و190 مليوناً معظمها لاستخدامات الريّ.
وفي مقارنة بين الطلب والعرض، حدّدت الدراسة العجز المائي المتوقّع في المناطق، بحلول سنة 2030، كالآتي: لبنان الشمالي: 180 مليون متر مكعب، بيروت وجبل لبنان: 80 مليوناً، لبنان الجنوبي: 260 مليوناً، البقاع: 400 مليون، أي ما مجموعه نحو 920 مليون متر مكعب.
بحلول 2030 سيبلغ معدّل العجز المائي نحو 920 مليون متر مكعب
ومن أجل الاستجابة للحاجات المائية المتفاقمة خصوصاً في الأشهر الممتدّة بين أيّار وتشرين الأوّل، عندما تكون مساهمة الأمطار ضئيلة جدّاً، أوصت الدراسة بضرورة «تجميع الأحجام المائيّة المطلوبة ليصار إلى استعمالها في المكان والزمان المحدّدين، مع ما يتضمنه ذلك من حشد كمّ وفير من المياه، واعتماد إدارة رشيدة وشاملة لقطاع المياه تضمن الاستفادة الأفضل من الموارد المائيّة السطحيّة والجوفيّة، وفي وقت لاحق من المياه المبتذلة التي تمّت معالجتها وأيضاً من المياه المحلّاة». وقدّرت حجم المياه السطحيّة (مياه الأحواض والمياه الجارية ما بين الأحواض والمياه المتدفّقة من الينابيع) بحوالى 3520 مليون متر مكعب خلال سنة مطريّة وسطيّة و1810 ملايين متر مكعب خلال سنة مطريّة ضعيفة.
كما شدّدت الدراسة على أن «توافر المياه كماً ونوعاً لا يقتصر على العوامل الطبيعية والقدرات الاستثمارية، بل يتطلّب إدارة رشيدة تقوم بعمليّات قياس دقيقة ومراقبة مستمرّة لدرء أخطار التلوّث وبناء قاعدة معلومات متطوّرة وتدريب مستمرّ للعنصر البشري». واللافت أن الدراسة التي أوصت بضرورة الاستعانة بالمياه الجوفية للاستجابة للحاجات المائية المتفاقمة (30 مليون متر مكعب في لبنان الشمالي، 30 مليوناً في بيروت وجبل لبنان، 60 مليوناً في لبنان الجنوبي، ونحو 100 مليون في البقاع)، أشارت أيضاً إلى ضرورة الاستثمار في المشاريع المائية الضخمة إلى جانب السدود المنشأة أو إنشاء المزيد منها، من ضمن سياسات مائية أخرى.