شحّ وسوء إدارة ينذران بصيف حامٍ
“المي مقطوعة”… لازمة تصبح مع مطلع كل صيف جزءاً لا يتجزأ من يوميات الشقاء اللبناني، وكابوساً متعمداً يضاف الى كوابيس المواطن الكثيرة يرافقه طوال أشهر الحر حين يكون في أمس الحاجة إلى مياه تنعش أيامه الملتهبة. ولكن ماذا لو اجتمع الشح في المياه مع شح في الكهرباء والمازوت وتخبّط في إدارة الموارد المائية؟ هل “يكتمل النقل بالزعرور” حينها وتصبح المياه من الكماليات التي يصبو إليها اللبناني كالمواد المستوردة؟ وهل يمكن ان يكون هذا هو السيناريو المتوقع لهذا الصيف؟
بعد شتاء متأخر شحت فيه الأمطار وتأخرت المتساقطات عاد لبنان واستلحق المعدل العام للأمطار مع المنخفضات الجوية والعواصف الثلجية التي شهدها في شهري آذار ونيسان. لذا فإن الخوف الذي كان قائماً من شح في المياه تظهر تداعياته في أوائل اشهر الصيف، ليس في محله بالمعنى العلمي للكلمة إذ وصل لبنان الى ما يقارب 95% من المعدل السنوي العام ولم يعد هناك خشية من موسم جفاف. ولكن هل يحق لنا كلبنانيين أن نصدّق أم أن للجفاف مصادر كثيرة اخرى؟
لا خوف على مخزون المياه
د. إيهاب جمعة مدير محطة تل عمارة في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ورئيس فرع الري والأرصاد الجوية يشرح لـ”نداء الوطن” واقع المياه في لبنان وما ينتظرنا هذا الصيف قائلاً، ان مياه الأمطار التي تساقطت مؤخراً غذّت خزانات المياه الجوفية التي استطاعت استيعاب كمية المتساقطات لا سيما أن جزءاً منها استنفد مخزونه من المياه وصار شبه فارغ. وبات المخزون الآن جيداً جداً يسمح بانطلاق الينابيع السطحية ولا سيما في المناطق الجبلية. أما في المناطق التي لا تحوي أرضها بفعل العوامل الجيولوجية خزانات مياه جوفية فإن الأمطار المتساقطة بكميات كبيرة تنزل عبر المجاري السطحية الى البحر من دون أن نستفيد منها.
لبنان إذاً لا يعاني من شح مائي ووضعه ليس بالخطورة التي يحكى عنها، إلا أن مشكلة لبنان هي في سوء الإدارة المائية المعتمدة من قبل الدولة. فالمشاريع الموضوعة في الخطة المائية التي أقرّت عام 2002 لم ينفذ منها إلا القليل سواء بالنسبة الى السدود او الى عملية نقل المياه، وتنفيذ المشاريع يسير بشكل بطيء وضعيف ولا يغطي كافة المناطق كما أن خطة السدود مثلاً التي تمّ التركيز عليها نالت معارضة شعبية كبيرة وسقطت نتيجة ثغرات واضحة فيها. فالمياه في لبنان موضوع حيوي يحتاج الى خطة وطنية شاملة متنوعة الحلول والأفكار والاقتراحات مدعومة شعبياً ووطنياً لتستطيع السير بخطى ثابتة…
مع غياب الخطة الفاعلة او تباطؤ سيرها هل سيعاني اللبناني مع حلول الصيف من مشكلة مياه حقيقية؟ يقول د. إيهاب جمعة، ان معدل المتساقطات في لبنان معروف ومقبول ولكن ثمة مناطق تعاني من الشح أكثر من غيرها وتحتاج الى الصهاريج للحصول على المياه وذلك لأسباب طبيعية أولاً وبسبب زيادة عدد السكان في غالبية المناطق وزيادة العمران العشوائي الذي رافقته مشاكل في البنى التحتية جعلت وصول المياه صعباً ودونه عثرات لوجستية، لذا ليس مستغرباً ان يعاني معظم المناطق اللبنانية شحاً في المياه بسبب هذه الفوضى.
ويكشف د. جمعة أن 70% من المنازل في لبنان تستخدم المياه الجوفية أي أنها لا تتكل على “مياه الدولة” سواء في بيروت والسواحل أو حتى في المناطق العالية. بالنسبة للسواحل لا خطر من أن يخف مخزون الآبار الجوفية صيفاً لأنها تعود للامتلاء تلقائياً من مياه البحر ولا مشكلة في ضخ كميات كبيرة منها يستفيد الناس منها في كل المواسم حتى ولو كانت في فصل الصيف أكثر ملوحة. أما في المناطق العالية فإن ضخ المياه بكميات كبيرة يؤدي الى شح في مخزون المياه الجوفية يشعر به المواطنون في أواسط الصيف ويحتاجون معه الى شراء صهاريج المياه. وهنا يمكن القول إن لا عدالة في توزيع المياه فمن عنده بئر يمكنه أن يضخ قدر ما يشاء بينما يكون جاره محروماً من المياه التي لا تصل إليه عبر شبكة المياه الرسمية إلا بشكل مقنّن.
مشكلة تقنين المياه الناتجة عن الشحّ يمكن للدولة تنظيمها لو كانت تملك خطة طوارئ لعملية إدارة المياه. إذ يمكن للخبراء أن يتوقعوا سنوات الجفاف قبل حدوثها، وهذه التوقعات تكون حافزاً للدولة لتتحضر لمواجهة الأمر وتوجيه مواطنيها للتعامل معه. يمكن استباق الأمور إذاً واتخاذ تدابير على الأرض تتيح تخزين المياه وتوزيعها بشكل متوازن. فالقضية إذاً أيها اللبنانيون ليست قصة شحّ كما يوهموننا بل سوء إدارة وفوضى في البنى التحتية وعدم جهوزية للتعامل مع المشكلة وتوعية المواطنين بشأنها.
التقنين آتٍ بلا شك يقول د. إيهاب جمعة وعلى المواطنين التحضر لتضاعف أسعار متر المياه المكعب الذي تؤمنه الصهاريج حيث يتوقع أن يكون في حده الأدنى في المناطق المعدمة 25000 ليرة لبنانية وقد يصل الى 30000 او اكثر في غالبية المناطق الأخرى. وإذا احتسبنا أن عائلة من أربعة اشخاص تحتاج أقله متراً ونصف المتر في الأسبوع فإن الكلفة الشهرية المتوقعة مع بدء موسم الصيف سوف ترتفع الى 150000 ليرة أو أكثر.
السيد جان جبران، مدير عام مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، يرسم لواقع المياه الذي ينتظر اللبناني هذا الصيف، صورة رمادية لم تتضح معالمها بعد مع أن تباشيرها بدأت تلوح من بعيد منذرة بالأسوأ. بالنسبة إليه ليست المشكلة في كمية المياه المتوافرة بل في كيفية إيصالها الى الناس. فمؤسسات المياه تعمل جاهدة لتأمين هذه الحاجة الحيوية الى الناس لكن مشكلات عديدة تواجهها وتعرقل سعيها. فانقطاع التيار الكهربائي وزيادة ساعات التقنين يؤديان الى اضطرار محطات التوزيع الى تشغيل مولداتها لساعات طويلة مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع كلفة تشغيل المولدات في ظل ارتفاع سعر المازوت وانقطاعه المتكرر من الاسواق، وارتفاع كلفة صيانة المولدات التي تتعرض للأذى نتيجة استخدامها لأوقات طويلة. ويؤكد السيد جبران أن الإنفاق في مصالح المياه بمجمله هو بالعملة الصعبة من قطع غيار وأعمال صيانة وغيرها في مقابل جباية بالليرة اللبنانية وهو ما يخلق خللاً في الميزانية ينعكس على الأداء. فعمال الصيانة مثلاً الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية ولم يطرأ عليها أي تعديل باتوا محبطين يحسبون ألف حساب قبل التوجه الى أي مكان لتصليح عطل طارئ رغم اندفاعهم المعتاد وتلبيتهم لنداء الواجب.
مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان تسعى جهدها كما يؤكد مديرها العام لتأمين المياه للمشتركين، لكن إذا بقيت أوضاع الكهرباء والمازوت على حالها فلا شك أنها ستلجأ الى التقنين وسوف تخف الساعات التي تصل فيها المياه الى المنازل. هذا إضافة الى المشاكل الدائمة حيث ثمة مناطق تعاني في الأصل من مصادر مياه خفيفة تضطر معها المؤسسة الى المزيد من التقنين. لكنها لا تقطع المياه مطلقاً بشكل دائم عن الناس.
مردود مؤسسات المياه يأتيها فقط عبر الجباية التي يتم تحصيلها بالليرة اللبنانية، وسعر المتر المكعب لم يتم رفعه إلا 40000 ليرة منذ سنتين ليصبح 340000. وثمة نسبة لا بأس بها من المشتركين الذين لا يدفعون اشتراكاتهم وإن اختلفت النسبة بين منطقة وأخرى، لذلك تسعى مؤسسات المياه الى حث المواطنين على الدفع عبر تقديم تسهيلات لهم مثل تقسيط الدفعات او تمديد المهل، لكن رغم ذلك ونتيجة للضيق الإقتصادي فإن فئات كثيرة باتت اليوم غير قادرة على تسديد اشتراكاتها لمؤسسات المياه وبالتالي تتأثر الجباية وتتأثر معها قدرة المؤسسة على تقديم الخدمات. “نقبض باللبناني وننفق بالدولار” جملة تلخص ليس واقع حال مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان وحسب بل لبنان بمجمله ومواطنيه بمعظم فئاتهم. فهل تكون الحكومة العتيدة هي الحل أيضاً لمشكلة المياه؟
مضخة سليم
سليم وكيل مبنى لا تصله مياه الدولة ويتكل على بئر ارتوازي لضخ المياه لكامل شقق المبنى. وفي حال حدوث اي عطل على مضخة المياه تصبح كل المنازل بلا مصدر للمياه. ولكن ما لم يحسب سليم حسابه هو الانقطاع المستمر للكهرباء الذي أجبر سكان المبنى على التكافل والتضامن لشراء مولد كهربائي بالعملة الصعبة لتشغيل المضخة التي لا يكفي الاشتراك بمولد الحي لتشغيلها. كما لم يحسب سليم كلفة ارتفاع سعرالمازوت وصعوبة تأمينه بشكل دائم ما اضطره لتخزين المازوت وتعريض حياة سكان المبنى للخطر تحسباً لارتفاع سعره. ويستولي الذعرعلى قلب سليم كلما غصت المضخة او أنذرت بعطل قد يستدعي تصليحاً وقطع غيار… أما جاره أديب فيستجرّ المياه من بئر ارتوازي قريب ويدفع بحسب العداد وفق تسعيرة المتر التي يفرضها صاحب البئر الذي يحتاج بدوره الى مضخة قوية تعيد الدائرة الى بدايتها.
وما هذه الصورة السوريالية سوى غيض من فيض ما ينتظر اللبنانيين هذا الصيف. فأبشروا…
النوعية لا الكمية
ليست كمية المياه أو كلفة تأمينها هي المشكلة الوحيدة التي يعاني منها اللبناني، بل ان نوعية المياه مشكلة أدق وأصعب. فمياه لبنان بغالبيتها بحسب رأي الخبراء ملوثة جرثومياً وبيئياً حتى ولو نشأت لدى اللبناني مقاومة تجاه هذا النوع من التلوث. ففي بلد صغير مثل لبنان غير قادر على معالجة مشكلة نفاياته التي يرميها في الجبال والوديان، وتسود المصانع في مناطق مختلفة منه من دون مراقبة حثيثة من الدولة ومع شبكة نقل مهترئة تتداخل مع شبكة الصرف الصحي، فإن وضع المياه الجوفية في لبنان لا يطمئن سواء بالنسبة للشرب او ري المزروعات. وفي حين يعتبر البعض أن المياه التي لا تتسبب بأمراض فورية تعتبر قابلة للشرب فإن الأطباء يحذرون مما يمكن أن يتسبب به هذا التلوث من أمراض على المدى الطويل، وما زيادة نسبة الأمراض السرطانية إلا الدليل على ذلك.