مشكلة الكهرباء “يا محلاها” أمام أزمة الماء
وعدونا بصيفٍ واعد، لكننا لم نخل أنّ مِن تلك «الوعود الصادقة» أن نمضي هذا الصيف بلا مياه ولا كهرباء ولا خبز ولا دواء. وعدونا ووفوا. و»أحبابنا» المغتربون «رح يطلوا» لكن هل سيجدون مياها يستحمون بها؟ سؤالٌ برسم الدولة الفاشلة.
من آخر إعلانات مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان الموقرة: «إنت السند يلي عم يرفعنا». هي قررت ان تحيي عيد الأب في وقتٍ كل البلد يعاني الجفاف الشديد. مواطن مسكين سارع الى الردّ عليها: «هيدا السند بحاجة الى 500 ألف ليرة أسبوعياً أجرة الصهاريج التي «تنغل» في الحيّ. وهذه جريمة». 500 ألف وفي أماكن أخرى النقلة بـ 900 ألف أو ثمانين دولاراً بحسب طول المسافات بين النبع والمستهلك.
نعم، الدولة اللبنانية، بأمها وأبيها، ترتكب إبادة جماعية في حقّ ناسها. وخطها الساخن: 1713 مشغول دائماً. موظفو الخط الساخن كانوا البارحة يحتفلون ربما بعيد الأب المنهك على كل الأصعدة. وجان جبران، مدير عام مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، لا يجيب. ندق له بدل المرة مرات. وهاتفه يرد برسالة: لا يمكنني الإجابة الآن (sorry. I can’t talk right now). لا جديد يجيب عنه جان جبران ربما بعد كلام قاله منذ أسبوع وفيه: «كنا نعيش التقنين ووصلنا الى مرحلة بات فيها التقنين أقسى وأقسى. وإذا لم نتلقّ مساعدة، من مازوت وسواه، سنتوقف عن توزيع المياه. لقد دفعنا كل المستحقات السنوية التي لدينا في أقل من ستة أشهر، ولم يعد معنا مال لنُسدد مستحقات الأشهر الستة المقبلة. والزيادة التي فرضناها على اشتراك المياه لا تُشكل إلا بحصة، وكي نستمر في تأمين المياه نحتاج الى رفعها السنة المقبلة الى 4 ملايين و800 ألف ليرة لبنانية على الأقل. فالموازنة مدخول ومصروف ومداخيلنا «بحصة».
البلد بلا كهرباء. نحاول أن نستوعب. الطحين مفقود والخبز بالقطارة والآتي أعظم. يسكت اللبنانيون الذين دخلوا في «كوما» على مضض. الدواء نادر الوجود واللبنانيون «يعضّون» على وجعهم مستنجدين بدواء تركي أو مصري أو سوري. لكن، في زمن وباء «القرود» المقتحم ديارنا وعودة كوفيد-19 والصيف اللهاب والفطريات فكيف لهم الإستغناء عن المياه أيضا؟ متجهون الى الأسوأ؟ هلكونا بتلك المعادلة التخويفية ولكن ماذا يفعلون لمواجهتها؟ كيف يتصرفون حيالها؟ خزانات البيوت جفّت. ومن سيستمتعون بآرمات: «أهلا بالطلة» لن يجدوا قريبا مياه استحمام. فأهلا بهم في جهنم لبنان.
وماذا بعد؟
نطلب من جديد جان جبران. خطه ما زال مقفلاً. والأصداء، كل الأصداء، تشي بأن الأزمة ستستفحل بعد وبعد وبعد… إلا إذا قدّمت المنظمات المانحة مساعدة ما. اليونيسف تساعد على توفير مياه الشفة الى اللبنانيين، كما الى النازحين السوريين، وهي عملت على تغطية تكاليف تصليح وصيانة 70 محطة ضخّ للمياه، ما ساهم باستمرار وصول المياه، نحو ساعتين تقريباً، الى ما يقارب 458 ألف. اليونيسف أنذرت في تقرير أصدرته في تموز الماضي، أي قبل 11 شهراً، بخطر فقدان إمكانية الحصول على المياه الصالحة للشرب في لبنان، غير القادر على المواجهة بسبب عجزه عن دفع كلفة الصيانة بالعملة الأجنبية، وهو ما تزامن مع إنهيار شبكة الكهرباء ومخاطر إرتفاع كلفة المحروقات. وقدرت اليونيسف أنه في حال انهيار منظومة شبكة إمدادات المياه العامة، فإن كلفة حصول الأسر على المياه سترتفع بنسبة 200 في المئة شهرياً جرّاء اللجوء الى موردي المياه من مصادر أخرى. وهذا بالفعل ما بلغناه. وفي تقديرات اليونيسف أن 1,7 مليون شخص تقريباً يحصلون (في تموز الماضي) على 35 ليتراً فقط من المياه يومياً أي بانخفاض يقارب 80 في المئة مقارنة بالمعدل الوطني للحصة المائية للفرد قبل العام 2020 والبالغ 165 ليترا.
ها نحن نقترب من تموز 2022. دولتنا سمعت ما سمعناه لكنها استمرّت تتفرج! والمسؤول غير القادر على إيجاد الحلول لا نفع لا له ولا منه. و»الميّ»، على ذمة مؤسسة المياه نفسها، حياة. فكيف تقطع الدولة ومؤسساتها الحياة عن اللبنانيين الذين يصرخون، من أقصى لبنان الى أقصاه: بدنا ميّ! وتطالبهم بالدفع والسداد وتنذرهم بأننا ذاهبون الى الأسوأ؟
الأفضلية للفنادق والمنتجعات
موعودون بسياحٍ قد «ينشلون» البلد موقتا من المأزق الأكبر. لكن، من أين ستؤمن «دولتنا» الى هؤلاء المياه؟ يبدو أن الصهاريج بدأت تتوجه حصراً الى الفنادق والمنتجعات الكبيرة في لبنان بدل التوجه الى مبنى لإعطاء شقة أو شقتين كمية 1000 ليتر. أحد أصحاب الصهاريج ويدعى جوني يوزع المياه على الأوتيلات والفلل حصراً ويقول «الأسعار أصبحت بالدولار فقط لأن المازوت يُسعّر بالدولار وكلفة قطع الصهريج أيضاً». صهريجه يسع كمية 20 ألف ليتر يبيعها بسعر خمسين دولاراً أميركياً. والتعبئة تتم من محطات مياه مرخصة، تعمل على العداد، وتدفع ضريبة الى الدولة. يعني ثمة تناغم على ما يبدو بين أصحاب الصهاريج ومحطات المياه والدولة النجيبة. في كل حال، يقول صاحب الصهريج إن الطلبات تقل يوماً بعد يوم لأن الناس، كل الناس، باتت تقنن «والله يساعد الناس».
غسان بيضون، المدير العام السابق في وزارة الطاقة والمياه، يسهب دائما في الكلام عما أوصل القطاع الكهربائي الى الدرك الأكثر عتمة. فماذا عما وصلنا إليه من جفاف مائي وشحّ هائل؟ يجيب: «في السبب المباشر والقريب، الذي لا يحتاج الى تفسير كثير، أن معظم مصادر مياهنا تُضخّ بواسطة المولدات. نحن بحاجة الى كهرباء غير متوافرة. وبالتالي، ما اوصلنا الى ما بلغناه هو سوء إدارة الموارد وشأن المياه منذ 12 عاما، منذ أنشئت مؤسسات لتولي إدارة المرفق بطريقة إستثمارية. ويشرح: المؤسسات العامة الإستثمارية للمياه تقتضي مدّ إمدادات وشبكات وحسن إدارة الموارد الطبيعية لتأمين حاجات الناس من المياه وتغطية كلفة الإنتاج، وقد نصت المادة 221 على وجوب أن تراعي التعرفة الأوضاع الإقتصادية».
لا شيء تحقق. والأزمة اشتدّت. ويقول بيضون: «في وقت كان العالم يتجه الى اللامركزية توجهنا نحن الى المركزية. في هذا الإطار، عملوا على ضمّ مؤسسات ومصادر مختلفة للمياه الى إدارة ضعيفة، لم تراعِ المنطق الذي ينص عليه إنشاء المؤسسات التي لم تُملأ شواغرها ولم يؤمن لها الجهاز الإداري والفني والمالي. وراح الوزراء- الجبرانات – يستعينون بشركات ومقاولين، واستولى جبران باسيل على كل المساعدات التي كانت ترد الى القطاع وعمل على توجيه إستعمالها الى ما يخدمه مناطقياً وانتخابياً. وهذا ما تسبب بانتعاش مناطق على حساب مناطق أخرى وخلا كل ذلك من رؤية مستقبلية. أنشأوا سدوداً فاشلة ومكلفة وعينوا مقاولين تابعين مثيرين للشك والريبة. ولم نر، في أكثر من عقد، مشروع مياه نظيفاً لا شبهة عليه ولا ملاحظات. ويجعلنا هذا كله نعلن اليوم بالفم الملآن: يا محلا قطاع الكهرباء أمام قطاع المياه. ويستطرد بيضون بالقول: أتذكر كيف عمل باسيل على إعفاء جوزف مخايل نصير، مدير عام مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان منذ العام 2002، من مهامه الوظيفية ووضعه تحت تصرف وزير الخارجية والمغتربين في العام 2018. وعيّن مكانه جان جبران. عرف جبران باسيل كيف يستولي على إرادة الناس، في مواقع السلطة، كما يشاء.
ما جعلنا ندخل في الدهليز القاتم هو أننا تعايشنا مع إدارات قصيرة النظر. وها نحن ما زلنا نشهد محاولات ولادة حكومات ترضخ وتساوم. وفي كل مرة نقول لدولتنا: ماذا فعلت بنا؟ يطل من يقول: أزمة الدولار ليست بيدنا. «سياسيونا، بحسب غسان بيضون، ولا أوقح. لا رحمة لديهم ولا خجل» يضيف: «إذا لم نتوسع باستخدام الطاقة الشمسية لاستخراج مياه الآبار فمستحيل إيجاد حلول لأزمة المياه». ويستطرد: «أنشئت عام 2014 الهيئة الوطنية لإدارة الكوارث. فهل تعرفون عنها اليوم شيئاً؟
الساعة تدنو من الخامسة. جان جبران على الخط. هو انتهى للتوّ من سلسلة إجتماعات ضاغطة ومستعدّ للإجابة. فماذا لديه ليقول؟ يتكلم المهندس بصراحة، وبلا لف ودوران: «نحن ذاهبون الى مكان ليس جيداً على الإطلاق». ماذا يقصد بدقة؟ يجيب: «الكهرباء تتراجع، مادة المازوت شحيحة، ونحن، كمؤسسة، أصبح لزاماً علينا أن ندفع الدولار «فريش» لهذا نتوقع أن تنقطع المياه». ماذا يقصد بذلك؟ ماذا يعني أن يعيش اللبنانيون بلا مياه؟ يحاول أن يُفسّر: «35 في المئة من المياه توزع على الجاذبية، في المقابل أكثر من 65 في المئة توزع على الطاقة الكهربائية. ما معناه أن المياه ستنقطع عن ما لا يقل عن سبعين في المئة من اللبنانيين».
نسأل مهندس المياه: ماذا فعلتم كمؤسسة منذ عامين، خصوصاً أن مؤسسات دولية بينها اليونيسف أنذرت من ما وصلنا إليه منذ عام؟ يجيب: «نحن مؤسسة خدماتية. لسنا نحن من خلق المشكلة. لسنا مسؤولين نحن عن غلاء المعيشة وارتفاع الدولار. ولسنا نحن من نحجب المازوت عن المؤسسة. موظفونا يتقاضون أقل من 40 دولاراً (كراتب شهري) ووجعنا هو نفسه وجع جميع اللبنانيين. الوجع دقّ بنا. أرسلنا عشرات المكاتيب الى الوزارات المعنية والى مصرف لبنان والحكومة. نحن مؤسسة عامة لا قرار لنا والآن، ما يحدث معنا، أننا مضطرون الى إدارة الأزمة لا متابعة الإستراتيجيات التي بدأتها. عملنا أصبح على مستوى يومي».
ماذا عن تحويل المياه عبر الطاقة الشمسية؟ ألم تتأخر المؤسسة بالقيام بها بديل إستخدام المحروقات؟ يجيب جبران «نحن أعددنا دراسة لكل مناطقنا الحساسة وننتظر من يؤمن لنا المساعدات من الجهات المانحة للمضي بها».
في المحصلة، إنتبهوا الى مياه الحنفية كما تحرصون على جوهرة. فنحن ذاهبون الى الأسوأ. والأسوأ لن يُطاق.