نساءٌ عوقبن من أزواجهنّ
ميمونة قتلها زوجها. ضربها ضرباً مبرحا حتى ماتت. منال عاصي فار دم زوجها فقتلها. ندى بهلوان غضب زوجها فقتلها. تمارا حرق زوجها وجهها بالسبيرتو لأنه يغار عليها. كارن حتي، عارضة الأزياء الشهيرة، وضعها زوجها في مغطس من المياه المغلية وتركها تعاني وتعاني وتظلّ تعاني… وها هي الشابة سمر، إبنة السابعة والعشرين، التي رمى طليقها على وجهِها “مياه النار” مقحماً إياها في أتون الألم. قصصٌ تُسردُ في الأقبية، تُسمع لثوانٍ، وينساها الجمهور. سمر، الشابة المصرية الجميلة، تسردُ كثيراً من العِبر بعينيها، أو لنقلّ بعينٍ واحدة صمدت من عينيها من براثن زوجها، لكنها كانت كافية لتُشكّل حكاية تستحقّ أن تُقرأ.
الحياة حلوة ومرّة. والبشرُ أخيار وأشرار. وأحلامُ الصبية سمر كانت وسع الأرض. وكان ما كان. فهل أذنبت سمر لتدفع الثمن غالياً، طوال العمر، لزوجِها؟ هل كارن حتّي سبق وأذنبت أيضا ليجعلها زوجها مصطفى بري تدفع الثمن كل العمر؟ وهل أذنبن كل اللواتي قُتلن أو عُذّبن أو تمّ رميهنّ بمياه النار؟ وما هي هذه الموضة القديمة – المتجددة من التأنيب المتمثلة بمياه النار؟ وأيُّ عالم نعيش فيه؟
هناك من يقتل بالمسدس أو بالساطور أو ببندقية صيد لكن ماذا عن القتل – البطيء بمياه النار؟
تتشكل هذه المياه الخطيرة من حمض النتريك، أي حمض الكبريت، والحرص واجب عند استخدامه. أسكبوه على حجرٍ وراقبوا ماذا يفعل فيه وستُدركون ماذا يمكن أن يكون قد حصل للصبيّة سمر وكثيرات مثل سمر.
فلنسمع قصتها…
تتحدثُ سمر بصوتٍ خافت، بعذوبة شديدة، وبعنفوان هائل. سمر واجهت، ناضلت، تحدّت وتحلم. نعم هي تحلم.
جميلة جداً كانت وجميلة القلب والعقل تستمر. مصرية، من بلدة المنوفية بالتحديد، ولدت في المملكة العربية السعودية وعاشت مع والديها وشقيقاتها الأربع حياة هادئة. وفي سن التاسعة أو العاشرة عادت الى مصر وكانت البداية الجديدة.
كبرت الصبية سمر، سمر مسعد، هذا هو اسمها الكامل، وتقدم أقارب لطلبِ يدها لابنهم. وعدوها بالكثير. ووعدتهم أن تكون زوجة صالحة. تزوجت. وسرعان ما ظهر الوجه الآخر لرجلٍ ظنّت أنه سيحميها طوال العمر. بدا فاسداً وعالة ويفتقر الى صفات النخوة والرجولة. تعذبت معه، حصلت خلافات، وقررت الطلاق. تطلّقا مع وعدٍ منه: “سأجعلك تنظرين في المرآة وتتحسرين”. لم تفهم حينها ما قصد.
أصعبُ الألم أن ترسم الضحكة على شفاهك وداخلك ينتحب. هي عاشت أصعب الآلام. تُخبر هذا بابتسامة ٍ مجبولة بألمٍ وأمل.
مرّ الوقت. عقدت خطوبتها على سواه. طاردها مجدداً. هددها. وفي أحد الأيام نزلت الى الشارع مع شقيقتها فلحق بهما ورمى على وجهها مادة أسيدية أصابت ذراع شقيقتها أيضاً. وقال لها بعينين وقحتين: “ألف مبروك”. وبدأت مأساتها الفعلية.
تُخبر سمر قصتها بجرأةٍ متناهية مرددة بصوتٍ فيه كثير من الثبات والقوة: لا يمكن أن أشرح بكلماتٍ تلك اللحظات. هي لحظات لا تُشبه أي لحظات. هي أصعب من كل اللحظات. أقوى ألم في الدنيا هو الألم الناتج عن الحرق. هو ألم فظيع لا يُطاق. والمادة الكيميائية التي استخدمها طليقي تظل تتفاعل مع أنسجة الجسم طوال ستة أشهر. فقدت عيني اليمنى كليا. ذابت جفوني. تأثرت جدا العين اليسرى وبتّ أعاني من مشاكل في القرنية وما عدت قادرة أن أتبين الوجوه والألوان. ألم رهيب فظيع. كثير من المسكنات. كثير من الصراخ. كنت أطلب أن أنام. أن أغمض جفوني وأنام. لكنني بلا جفون. يا الله. شعورٌ لا يوصف. عشت المأساة لكن الله سبحانه وتعالى ساعدني كي أعبُر بسلام. لم أتذمر. مررت في حالات إحباط بسبب نظرات الناس. كانوا ينظرون إليّ كمسخٍ. حاولت ألا أنكسر. كنت متأكدة أنني لن أنكسر لأنني لم ولن أسمح لطليقي أن ينتصر عليّ. كنت أشعر أحيانا بالحزن مع الألم لكنني كنت مقتنعة أن الحزن شعور طبيعي ونجحت مع الوقت في تحديد حجم حزني وكلما شعرت أنني أتخطاه أصلي أكثر. نجحت في ألا أمشي في نصف الطريق وأبتعد عن اللون الرمادي وآخذ قراراتي بنفسي.
27 عملية في 4 سنوات
تلك الطمأنينة في صوت سمر تُضفي على حالتها مشاعر قصوى. سمر فتاة قوية رهيبة. نسمعها تتحدث فنشعر بقوتِها، بصبرِها، وبقدرتِها الهائلة على تجاوز المحنة: رأيت الموت. رأيتُ روحي ترفرف فوق جسدي وتراقب كل المشهد من فوق. خضعتُ الى 27 عملية جراحية في أربع سنوات. بحثتُ كثيراً عن طبيب شاهدته في فيلم يُعالج فتاة حالتها مثل حالتي ويُركب لها قطعا إصطناعية مكان الأعضاء التي خسرتها. هو أخذ أوسكار عن دوره هذا في مهرجان أبو ظبي السينمائي. وجدته في لندن وكلفة العلاج كانت باهظة جداً. فاخترت العلاج في مصر. انتقلت لاحقا الى تايلند وأجريت هناك عمليات عدة. وعلمتُ ان في مستشفى الشيخ راشد في دبي مستشفى لتركيب الأعضاء الإصطناعية وهناك تعرفت على أشواق الهاشمي وهي أول نحاتة طبية في دولة الإمارات العربية المتحدة، تعمل على صناعة الأعضاء البديلة. هي إنسانة رائعة، مبدعة، مليئة بالإنسانية وتخصص جزءاً أساسياً من نشاطها للخدمات الإنسانية. تعبت أشواق معي كثيرا. واكتشفتُ لاحقاً أنها هي التي صنعت العضو الإصطناعي الذي شاهدته في الفيلم. يا لها من صدفة. ساعدتني كثيرا ولا تزال.
خطيبُ سمر تركها لكنها لم تتفاجأ. وتشرح: أريد أن أخبر الصبايا أن الفتاة قد تتزوج وقد لا تتزوج وفي الحالتين لديها رسالة. الحياة مليئة بالرسائل. ورسالتي في هذه الدنيا أن أحمل هموم الفتيات اللواتي عانين مثلي ولم يجدن من يُمسك بذراعهن ومعظمهن ينتمين الى مستويات إجتماعية بسيطة.
“سمر” في المرآة
الأحلامُ تتغير. الأحلام تتلاشى. تتوقف. تختفي. ماذا عن أحلام سمر اليوم؟ وحين تنظر في المرآة من ترى؟ سمر؟
تتذكر سمر أول مرة نظرت فيها الى نفسها في المرآة: لم أعرف في تلك اللحظة من أرى. لم أعرف من هي هذه المرأة في المرآة. ما عدتُ أرى، حتى في أحلامي، سمر أيام زمان ولا سمر اليوم بل وجهاً ضبابياً غير قادرة على تبيان تفاصيله. المشكلة التي واجهتها جعلتني أنسى شكلي الذي يتغير مع كلِ عملية جراحية لكنني أعرف أنني أصبحت مميزة أكثر. أصبح في حوزتي رسالة إجتماعية تطال كل الصبايا اللواتي عانين أو سيعانين كما أعاني. أصبحتُ أنظر الى الأمور عكس كل الآخرين. ولم أعد أرى في الكوب النصف الفارغ منه ولم أعد أفكر لماذا لست شقراء أو طويلة أو قصيرة أو عيوني ملونة خضراء أو زرقاء أو شعري مجعداً أو أنتمي الى جنسية أخرى إنكليزية أو ألمانية. أعرفُ أنني لن أعود في حياتي سمر الصبية الجميلة ولا يهمني أن أعود كما كنت، وعلمياً لست قادرة أن أعود، بل أريد أن أكون سمر القادرة على ترك بصمة. فيا ربي لا تجعلني أغادر هذه الدنيا قبل أن أضع هذه البصمة.
الإنتصار
تعمل سمر اليوم مساعدة مدير خدمة العملاء في المركز الأهلي لتعليم قيادة السيارات في دبي. وتقول: أودّ أن أشكرهم. أودّ أن أقول لهم شكرا لأنكم قيمتم سمر الإنسانة، المتعلمة، القادرة على أن تعطي لا سمر المهمشة، التي محا الأسيد معالم وجهها. وتستطرد: تقدمت قبلا الى وظائف شتى وكنت أخبر أصحاب العمل، عبر الهاتف، مسبقاً عن حالتي. وكانوا يطلبون مني أن آتي ليروا شكلي. أحدهم قال لي: كيف تريدين أن أقبل بك وأنت هكذا! أحيانا يوقفونني في الشارع ويسألونني ما بك؟ وأرى غالبا العيون تلاحقني في شكلٍ محيّر. لا يترك العالم من هم أمثالي في حالنا.
سمر، الصبيّة، عادت تشقّ طريقها. تضعُ الملامح الإصطناعية صباحا وتنطلق في الحياة. إنتصرت سمر على “رجل” أراد أن يمحوها عن وجه هذه الأرض بمحو ملامحها. هو يقضي الآن عقوبة عشر سنوات في السجن وهي أقسمت أن تقضي العمر تساعد من هم في حالتها. وشتان ما بين عمرٍ وعمر.
هذا ما تحتاج اليه سمر….
سمر هي الحالة الثانية التي عولجت من إصابات بالحروق في مركز «أمنيتي»، على يد الطبيبة أشواق الهاجري، بعد حالة زكية الباكستاني التي تمّ تصوير فيلم وثائقي عنها. أتت تريد تركيب عضو إصطناعي تجميلي بدل العين اليمنى مع محيطها. ويقوم المركز بإعادة الترميم وتركيب أعضاء إصطناعية، بينها العيون وأجزاء الوجه والأنف والأذن والأصابع واليدين والقدمين والثدي، وذلك تعويضا عن النقص الموجود وهي من مادتي السيليكون والإكريليك.
وستحتاج سمر، مثلها مثل كل حالات الحروق المشابهة، الى الكثير من الجراحات التجميلية أما الأعضاء الإصطناعية المستخدمة فتحتاج الى تغيير مستمر، كل ستة أشهر أو سنة، إذا كان المتضرر طفلا ينمو أما عند الكبار فيُصار الى تغييرها في حالات معينة مثل إختلاف القياس لأي سبب أو تلف القطعة بسبب سوء الإستخدام وما عدا هذا يمكن أن تصمد القطعة بين سنتين الى أربع سنوات.