IMLebanon

عندما اكتشفنا أنه لا توجد «دولة»: سوء تقدير أم سوء نوايا؟

 

 

صباح الإثنين 23 أيلول كان دامياً في الجنوب والبقاع. السكان نزحوا إلى بيروت وجبل لبنان ومناطق أخرى اعتبروها أكثر أماناً. قضوا ساعات ثقيلة على الأوتوستراد الذي يربط مناطقهم ببيروت. بعضهم أمضى ليلته هناك. وصلوا إلى مدارس يُفترض أنها أماكن إيواء بأبواب مغلقة. حين فُتحت، افترشوا الصفوف والبلاط. تدفّق في الموجة الأولى نحو 300 ألف شخص وفق تقديرات لجنة إدارة الكوارث. لكن، لم يمض يومان حتى تتالت موجات النزوح من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. بلغ العدد الإجمالي للنازحين أكثر من مليون شخص. تكرّرت المأساة على الطرقات وفي مراكز الإيواء. هناك تُرك الأمر للمبادرات الأهلية والأسرية في تأمين الخدمات والسلع الأساسية والأمن… مضى الأسبوع الأول على هذا المنوال، ثم مضى الثاني، والثالث على الأبواب، من دون أدنى وجود لما يُسمّى «دولة»، لا على الطرقات ولا في مراكز الإيواء. التزاحم بلغ حدوداً غير مسبوقة في كل مكان قصده النازحون. غياب «الدولة» صار نقاشاً عاماً. فالدولة، أو السلطة العامة، كانت تحضّر نفسها لهذا المشهد منذ أشهر. اجتمعت الحكومة وناقشت ورتّبت. يُفترض أنها فعلت ذلك. يُفترض أنها كانت تأخذ في الحسبان السيناريو الأسوأ، وامتصاص صدمة الساعات الأولى، وما بعدها. الخطّة، وإن كانت مبنية على أساس ما حصل في عدوان تموز 2006، إلا أن المشهد اختلف. يومها كان العدوان غير محسوب. وكانت القوى المؤسّساتية حاضرة ومستنفرة. الآن، المشهد مختلف مع كل الترتيبات المسبقة. يختلط الأمر على الكثيرين: هل كان الأمر سوء تقدير، أم سوء نوايا؟

1000 دولار

هو المبلغ السنوي المُقدّر من المنظمات الدولية المعنية بشؤون الإغاثة لتأمين الحد الأدنى للنازحين. فإذا كان هناك 1.2 مليون نازح (الأرقام على ذمّة الحكومة)، فإن الكلفة الإجمالية تبلغ 1.2 مليار دولار سنوياً جرى تأمين قسم منها من المانحين الأجانب

 

على مدى اثني عشر شهراً مضت، كان منسوب الأعمال العسكرية جنوباً يرتفع وينخفض على وقع ما يحصل في غزّة، وكان واضحاً للعيان أن العدو لن يعود إلى ما قبل 7 تشرين الأول 2023، في حركة متغيّرة باستمرار. في المقابل، كانت الحكومة تُناقش خطة منطلقة من أننا بخير، والحرب لن تقترب. هذا ما توصّل إليه أركان السلطة. السيناريو الأسوأ بالنسبة إليهم، كان في استمرار جبهة الجنوب ضمن منسوب الحرب ذات التوتّر المنخفض مع بعض الاغتيالات.

يقول وزراء في الحكومة، إنه كانت هناك حالة مذهلة من اللامبالاة والاستخفاف، بذريعة أن العدو لن يجرؤ. لم يتم تخصيص المبالغ اللازمة لتنفيذ خطّة واقعية. لم تُوزّع الأدوار. في لبنان الأدوار مرتبطة بالأشخاص وهويتهم السياسية وطموحاتهم. بالنسبة إلى النائب جميل السيّد، لا يمكن أن تصاب الدولة بالشلل. بمفهومه، وبما أن الدولة لا تقاتل، فإن «من واجبها الأول الاهتمام بالناس ومعالجة نتائج الحرب ومنع الفوضى. الأمن هو أداة أساسية لأي خطّة مهما كانت السيناريوهات المفترضة. تحضير خريطة النزوح مسبقاً يسمح بتوزيع النازحين. والإيواء يتيح الإحصاء. وهذا ما يفسح المجال أمام رسم خريطة للواقع الجديد، وخلق هوامش للتحرّك ومنع الفوضى وتأمين الحاجات الأساسية بالتعاون مع الجمعيات الأهلية التي لديها خبرة في هذا المجال ولا سيما مع النزوح السوري إلى لبنان، ولديها قدرات موجودة على الأرض. فالنازح سينتظم في الإطار الذي تضعه له وسيتعامل بالتزام خلافاً لما حصل من فوضى وعشوائية».

ثمة عبارة تختزل غياب الدولة: لم يكن هناك أي حضور لكل من يلبس «يونيفورم» أو «بدلة». وبعكس ما حصل في عدوان تموز حين كان «أصحاب البدلات» ينقلون الفرش والنازحين والسلاح من مكان إلى آخر وكانوا «يرابضون» في مراكز الإيواء لتأمين الأمن والنظام، ولو بالحدّ الأدنى. كانت هناك معادلة الجيش والشعب والمقاومة «تزيّن» البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة. لكن اليوم، في مقابل هذا الغياب، يستعير أحد المعنيين قصّة حقيقية حين أقام عمرو دياب حفلة في لبنان وخُصصت له فرقة كاملة للأمن والحماية. ظهرت الانتهازية السياسية ظنّاً من هؤلاء أن الهيكل وقع. يبيعون ويشترون الوهم ويساعدون في نشر البلاء. كذلك ظنّوا أيام الانهيار النقدي والمصرفي. في الواقع، ثمة خلطة من الإنكار والغباء السياسي ترقى إلى التآمر.

رئيس الحكومة قلق من الإنفاق ويرغب في التقشّف بينما لديه مبالغ تغطي كلفة النزوح لسنة كاملة

 

ينقل عدد من الوزراء عن النقاشات التي دارت، أنه كان هناك «ارتخاء» سياسي، وسط غياب للتوجيه السياسي. وفوق ذلك كانت هناك «خديعة أميركية»: «لم نُرفد بتحليل عسكري واستراتيجي عن المسار وتطوّراته، ثم أتت التطورات متسارعة جداً». كأن السلطة السياسية خصخصت عملها السياسي. لكن لمن؟ هذه السلطة كانت مسؤولة عن سلسلة خطوات لم يحصل منها سوى القليل وبالحد الأدنى «لأن الحكومة قلقة من الإنفاق». لكن على الحكومة أن تقلق على الشعب لا على الخزينة التي تجبي الضرائب من هذا الشعب. عليها أن تقلق من فكرة التهجير الذي يمارسه العدو يومياً. فهل هذا وقت القلق من إنفاق بضعة ملايين من الدولارات لإيواء الناس وتسريع انتظامهم في المركز البديل والمؤقّت؟

تظهر نقاشات مجلس الوزراء في الأشهر الماضية ما لا يمكن تخيّله. وفق التقديرات التي نوقشت بأن 10% من النازحين، سيمكثون في مراكز إيواء في الساعات الـ48 الأولى. لم يوافق المجلس على تخصيص اعتمادات لشراء 100 ألف فرشة، بل أقرّ على مضض، شراء 10 آلاف فرشة فقط. ردّة فعل باهتة من معظم الوزراء. أما بالنسبة إلى تخصيص مدارس للإيواء، فالعرض الأول تضمّن 10 فقط، وعلى مضض وافق المجلس على زيادتها إلى 100 فقط. المنظمات الدولية التي «لديها توجيه خارجي» قرّرت أن ترمّم 15 مدرسة لتحويلها إلى مراكز إيواء (والآن قرّرت منظمة غوث الأولاد تلزيم 100 مدرسة لتحويلها إلى مراكز إيواء). لم يتم إشراك كل الوزارات في الخطة، فاقتصر الأمر على وزارتي الصحة والأشغال وجزء من وزارة الداخلية من خلال الدفاع المدني الذي حصل على مليون دولار لتصليح آلياته. وعلى الهامش، في إطار «التوزيع» أعطيت سلفة للهيئة العليا للإغاثة وسلفة لمجلس الجنوب. أما الوزارات المعنية بالخدمات الأساسية مثل الطاقة والمياه والشؤون الاجتماعية وسواهما، فقد استُبعدت تماماً، وأُبلغت بأن «المجتمع المدني» سيلعب دوراً. مثلاً ستشتري بعض المنظمات المياه وتوزّعها على مراكز الإيواء. وبدلاً من أن تمارس السلطة التنفيذية، دوراً فعالاً في مواجهة العدوان، ركّزت على إصدار بيان بعدد مراكز الإيواء. في لحظة كهذه سقط كثيرون ممن يرون أنفسهم حلفاء، فيما صمت الخصوم بشكل مريب.

إلى أين؟ بحسب أحد المطّلعين على الواقع السياسي واللوجستي والإداري، يوجد الآن في لبنان «ثلاثة عوالم، واحد مجروح، وآخر يحاول لملمة الجراح، وآخر غير مهتم بل قد يكون متربّصاً». وفي بيروت هناك تقديرات بأن عدد السكان زاد بين 40% و50%، ومن بين النازحين يعيش الثلث تقريباً في مراكز إيواء جماعية، بينما يسكن الآخرون منازل بديلة أو فنادق، ولا أحد لديه تصوّر واضح عن هذه الحرب. و«الدولة» التي جبت الضرائب في الفترة الماضية لديها نحو مليار دولار متراكمة في حساباتها لدى مصرف لبنان، أي إن لديها القدرة على تأمين كل النازحين لمدّة سنة كاملة. الآن ليس وقت التقشّف، بل وقت الإنقاذ. ليس وقت التراخي المبني على رهانات سياسية محلية وخارجية، بل يجب تكثيف الخطّة في سيناريو واضح للعيان. لا رهان على سلطة كهذه سبق أن تبيّن بالجرم المشهود أنها بدّدت (بإدارة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، وبشراكة فعلية وكاملة مع أصحاب المصارف في لبنان) أكثر من 180 مليار دولار من مدّخرات الناس. الرهان الآن على أنهم يتهيّبون ما هو آتٍ وأنهم جزء مما كان. المستقبل هو للإعمار وهذا يتطلب صموداً على كل الجبهات. التقشّف والانزياح السياسيان لا يؤمّنان هذا الهدف. يجب تجاوز الفوضى العارمة التي حصلت بعد خطّة أُعدّت على مدى 11 شهراً.

 

 

«نسيطر على الشارع»؟

في جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت السبت في 28 أيلول الماضي، حضر القادة الأمنيون والعسكريون وقالوا في المجلس: «نسيطر على الشارع»، لكن تبيّن حتى اللحظة، أن هذه السيطرة غير موجودة، بل إن ما قامت به بعض القوى الأمنية يوم إعلان استشهاد السيد حسن نصرالله، كان لافتاً في توزيع الانتشار العسكري وأهدافه، وهو أمر يحصل بينما يعاني النازحون في مراكز الإيواء من مشاكل سببها التزاحم على الخدمات العامة بينما لا توجد أي خطة أمن أو خطة سير.

 

السردية الغربية القاتلة

يقول أحد الوزراء إن مؤشرات متزايدة على أن الإعلام الغربي يرفض التركيز على الواقع الفعلي في لبنان لجهة الاعتداءات والمجازر التي يرتكبها العدو، ولجهة ما يعانيه النازحون، بل إن كل تركيزه ينصبّ على تقديم سردية تتوافق مع الخط الصهيوني العام. اللقاءات مع مراسلي الإعلام الغربي تبدأ بالمعزوفة التي قامت بعد 7 أكتوبر، دائماً يريد هؤلاء إدانة حزب الله في مواجهة «إسرائيل». هذا النوع من الضغوط لا يستهان به، ولا سيما أن القوى السياسية في لبنان لديها ما يكفي من المخاوف لتجنّب مخاطر المواجهة مع الغرب. لا يجب إغفال أن الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، لديه سيف العقوبات الذي يستعمله من أجل الضغط على هذا الزعيم أو ذاك إلى حدود إخضاعه. النازحون في هذه السردية هم ضحايا لمشروع غير لبناني، وليسوا أهدافاً لاعتداء صهيوني.

من ملف : إسرائيل جنّت: عربدة شاملة