عيَّنوها جلسةً نيابيةً وقالوا: إنها لانتخاب رئيسٍ للجمهورية… أنا لمْ يلفتْني الخبرُ ولم أبتهج لهُ، ولا أثارَ فيَّ الإهتمام، لأنني أعرف أن الجلسةَ جلسةٌ بـراء تتغلَّب فيها أوراق التصويت المحروقة والأوراق البيض، ومع أنَّ الورقة البيضاء كذبةٌ دستوريةٌ بيضاء، إلا أنها تسوِّدُ الوجه.
ولكنْ، أكثرُ ما لفتَني في مجال الزعامة الشعبية الأسبوع المنصرم، زفافُ الأمير الحسين وليّ العهد الأردني، وقد بدت الجماهير الأردنية على امتداد شوارع العاصمة «عمّـان»، تتدفّق ملهوفةً لتحيّي موكب الأمير، بكل ما حملت المشاعر الوطنيةٌ من صدقٍ والأحاسيس الوجدانية من عمْق في تكريس الولاء والعهد للملك وولـيِّ العهد.
لستُ أدري، ما إذا كان الذين حكموا عندنا، والذين نصَّبوا أنفسهم زعماء، يتجرَّأون على مواجهة جمهور الناس في الشوارع، من دون أن يتعرَّضوا لسيلٍ من الرشْقِ بالبَيْضِ الفاسد.
سبَـقَ أن تفجَّرت بيروت بمرفأ بيروت فاهتزَّ معنا ضميرُ العالم وزحفتْ إلينا فرنسا رئيساً، وهمْ لم يتجرَّأوا خوفاً من فساد البيض.
ومع هذا، فالزعيم عندنا هو أكبر من الزعماء والملوك والرؤساء، إنه يساوي الله والوطن… ألمْ نسمع شعار: «اللـه ولبنان والزعيم»، بما فيهِ من تزييـفٍ وتجديف يتردَّد هتافاً لزعماء المذاهب والأحزاب، فإذا كلُّ زعيمٍ إلاهٌ ووطـن، ولكلٍ حـزبٍ وجماعة ربٌّ ووطـنٌ ودولةٌ وشعبٌ وزعيم.
في التاريخ السياسي القديم كان الملك إلاهاً أو إبنَ إلاه، ثم كان الحاكم والرئيس والخليفة والأمير والإمام والزعيم والوزير.
عندنا يسير التاريخ إلى الخلف، فلا يلبث أنْ يتحوّل الزعيم إلى إلاه، والآلهـة يحتاجون إلى من يتعبَّد لهم.
والحقيقة: إنَّ عهـد الزعامة الشعبية في لبنان قد ولَّى، مع آخـر دفعةٍ من المخضرمين تاريخيّاً، وآخـر حلقةٍ من رجال الإستقلال الذين لا يزالون محنَّطين في سجن راشيا.
عندما تـمَّ تغييبُ القيادة والزعامة والريادة والفرادة والنجابة، واستُبعدَ رعيلُ المبدعين بالضاربين على طبول البنادق والخنادق، أصبحت المدينة الفاضلة عند إبـن خلدون مدينة عاهرة، وراحَ لبنان يستنزف تباعاً أبـرزَ خصائصهِ ومآثـرهِ المميّزات، ورحنا نستنزف معه كل خصائص الذات الرائدة في التفوّق.
في ظـل الزعامة الإلهية والحكم القـوي: أصبحنا نخجل بلبنانيتنا ودولتنا وهويّتنا وانتمائِنا وألقابنا وأسمائنا، وأصبح جواز سفرنا أمام أيّ سلطةٍ خارجية، كأنَّهُ مذكرة توقيف.
ما لكُمْ وللإستحقاق الرئاسي وما يليهِ من إستحقاقات عقيمة، فما هي سوى نـوع من الدوران حول طواحين الهواء، وفي الطواحين جعجعةٌ ولا طحـنٌ ولا حـلّ.
هل تسألون عن طريق الحـل..؟ إنّ خطة الألف ميل تبدأ بإصلاحٍ وتغيير من نـوعٍ آخـر، أيْ: أنْ يحـلَّ المجلس النيابي نفسه لإعادة تكوين السلطة رهاناً جديداً على تغيير إرادة الشعب وقد تكشَّفتْ أمامه عاهاتٌ لم تكنْ واضحةً في الإنتخابات الأخيرة، فإذا كرَّر الشعبُ رهانه نكونُ كَمنْ يتقبَّل المعاصي عقاباً على ما اقترفناه، وإنْ هو بدَّل تبديلا، فلا يمنع تكريماً، من أن نقيم للزعماء اللبنانيين تماثيل من الشمع في متحف مدام «توسّـو» في لندن، أسوةً بعددٍ من الملوك والرؤساء ونجوم هوليوود، وإلى جانب غرفة الرعب التي تصوّر في المتحف أشكال الجرائم القاسية التي تَمَّت أثناء الثورة الفرنسية.