لا يكفي التزامن بين تفجيرات برج البراجنة وباريس لإقامة الدليل على أن “داعش” تعمد استهداف لبنان وفرنسا معاً، ومع ذلك فإن وقائع الجحيمين الدمويين اللذين فتحهما يستدعيان التمعّن في هذا العامل. ذلك أنه لا يمكن تجاهل وحدانية عامل الكراهية والعدائية لدى الجماعات المتطرفة عموماً و”داعش” خصوصاً حيال فرنسا بالذات لاعتبارات كثيرة أسهبت مراكز الأبحاث في إظهارها منذ هجمات كانون الثاني الماضي وصولاً الى جحيم ليل ١٣ تشرين الثاني كما العدوانية التي تطبع الاستهداف الإجرامي ضد لبنان. في بعض ملامح هذه العدوانية يخال المراقب أن “داعش” سواء صحّ هذا الافتراض أم كان من صناعة التقديرات التقليدية التي يصعب علينا كلبنانيين أن ننفصل عنها، يضرب أيضاً وفق برمجة سياسية متعمدة في لحظة منتقاة. ربما لا يكون في ذلك أي شيء واقعي، ومع ذلك ترانا أمام “وحدة المصيبة” وبازاء التعاطف الواسع الذي أثارته لدى اللبنانيين مع فرنسا ننظر الى الكارثتين من منظار يحمل الكثير من الخصوصية.
من نماذج هذه الخصوصية أننا نرى “داعش” كأنه انقض على العلاقة التي تحمل الرمزية الأكثر رسوخًا لسايكس – بيكو في شرق أوسط ينازع تغيير الخرائط والهويات فأراد تعميم حربه على الشرق القديم بإشعال الجحيم الدموي في المكانين الأقرب الى استثارة الذعر شرقاً وغرباً. كما أن “داعش” الذي يستحيل فهم سلوكياته المتوحشة في معزل عن ايديولوجيات الفناء التي توجهه أقام أحدث طقوسه الدموية بدماء لبنانيين وفرنسيين ليعلم العالم بفتح حقبة جديدة من حربه المعولمة على الروابط بين الدول والشعوب التي تعد الأكثر تجسيداً للانفتاح والحريات. لسنا متيقّنين من أن العوامل الميدانية في سوريا والعراق هي الدافع الحتمي الذي دفع “داعش” الى إسالة حمامات الدماء في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعدها بفارق يوم في سان دوني ومناطق مختلفة من باريس. هذه الظاهرة السفاحة تتجاوز بطبيعتها كل المحسوب وغير المحسوب، حتى ان دولا في الغرب والشرق وما بينهما باتت تقف عاجزة أمام أشد خطر يواجه العالم في التاريخ القديم والحديث إن بفعل قصور دولي مديد عن اجتثاث “داعش” وإن بفعل تواطؤات جعلته يتعملق مهدداً بافتراس الأمن العالمي وتخريب الحضارات وليس إشعال صدام الحضارات والأديان فحسب.
لا تزال الفرنكوفونية متقدمة نسبياً في لبنان بما يتيح لكثر قراءة حكايات عشرات المآسي التي أوردتها الصحافة الفرنسية ومطابقتها مع عشرات أخرى من وقائع دراماتيكية وردت في الصحافة اللبنانية. ذاك ما يصنعه “داعش” واقعاً، إنه يوحد العالم ويستنفره في حرب بات إعلانها عليه عاملاً وجودياً لا يحتمل انتظار مزيد من المجازر المعولمة وانهار الدماء.