ربع قرن مر امس على سقوط جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني ١٩٨٩. كان لبنان آنذاك قد شهد ما يفوق انهيار الستار الحديد أهمية في تاريخيته بالتوصل الى اتفاق الطائف وانتخاب الرئيس الاول في حقبة انتهاء الحرب الرئيس رينه معوض. لم يفقه اللبنانيون سر التوقيت السحري لوضع أوزار الحرب الا بعدما عاينوا الحدث التاريخي الذي توحدت معه برلين الشرقية ببرلين الغربية. اذ كان من جملة العوامل الكبيرة التي أدت الى قيام السلم اللبناني وضع أوزار الحرب الباردة بفعل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
لا نثير هذه المفارقة التاريخية بفعل تزامن إبرام اتفاق الطائف وسقوط جدار برلين فحسب، ولا ايضاً لمقارنة صادمة بين ما آلت اليه نتائج الوحدة الألمانية العملاقة وما انتهت اليه حقبة السلم الأهلي اللبناني، وإنما لإضافة اخرى تتصل بسقوط تجربة فصل الاستقلالية اللبنانية عن الواقع السوري. لعلها حقيقة مفجعة فعلاً ان نقف بعد ربع قرن من هذين الحدثين لنعترف ان النظام السوري نجح قبل ٢٥ عاماً في تمزيق الغطاء العربي والدولي لاتفاق الطائف بعد اغتيال الرئيس معوض وفرض “السلام السوري” كاملاً الى حين انسحابه القسري من لبنان عام ٢٠٠٥، ثم عاد ونجح ثانية في استدراج لبنان الى الارتباط الجهنمي بالحرب السورية منذ اكثر من ثلاث سنوات.
معروفة سلفاً الحجج الجاهزة لإنكار هذه الحقيقة ولكنها لم تعد تملك الأسانيد المنطقية الواقعية اقله لتبرئة النظام السوري من دم إجهاض تجربة السلم اللبناني التي لولا بقايا حكمة وخوف عارم من تجربة المجرب لكانت صارت الآن أثراً بعد عين. وإذا كان النظام السوري اليوم لا يزال يفيد من تقاطعات دولية واقليمية ظرفية من جهة ونشوء الظاهرة الداعشية التي لا حاجة الى الاستفاضة في إثبات دوره المعروف بتغذيتها، فإن ذلك يجب ان لا يحجب عن اللبنانيين حقيقة الدور الخطير التاريخي الذي اضطلع به في منع إنجاح لبنان من تحييد نفسه عن الحرب السورية بوسائله المباشرة او من خلال حلفائه وصولاً الى توريط او تورط حليفه “حزب الله” وكذلك استدراج فئات سنية لبنانية من خصومه في الحرب السورية. وهو أمر يبدو من زاوية ما يمكن ان يقرأه المراقب الآن بعين باردة كأنه الانتقام التاريخي من حركة استقلالية كانت بذورها الاولى في اتفاق الطائف نفسه على رغم كل ما تعرض له من تقويض وشتم وتوجت بانتفاضة لبنانية تاريخية على الوصاية السورية في العام ٢٠٠٥.
ربما لا يقدم التاريخ السوي ولا يؤخر شيئاً في مسارنا المأزوم، لكن على الأقل لا يتعين على اللبنانيين المحتفلين مع الألمان (!) ان يذهبوا بعمى الغش والوهم والنسيان وكفى.