يتغير العالم بسرعة تفوق قدرتنا على مواكبته وقراءته. يتغير بفعل العولمة وتدفق السلع والأفكار والهجرات السكانية الواسعة. ويتغير تحت وطأة الثورات التكنولوجية المتلاحقة. وتحت تأثير ثورة الاتصالات وتراجع هيبة السدود والحدود. انقضى عهد الجمود والثبات والقواعد النهائية القاطعة. وسادة هذا القرن مثقلة بالشكوك والأسئلة والتحولات. كأن المرء في امتحان دائم. وكأن العالم في مراحل انتقالية متدافعة.
اعتقد كثيرون أن البريطانيين أعقل من ارتكاب مغامرة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأنهم لن يجازفوا بتهديد مستقبل لندن كمركز مالي هائل على مستوى القارة والعالم. فاجأتهم نتيجة الاستفتاء. وصعقهم أن دعاة الخروج لا يملكون برنامجاً تفصيلياً مقنعاً لمواجهة أثمان قرار الخروج. اكتشفوا أن هذا المواطن الذي يقرأ العالم عبر كومبيوتره أو هاتفه يمكن أن يذهب بعيداً في الاحتجاج والتمرد والمجازفة.
واعتقد كثيرون أن الأميركيين قد يرسلون رسالة اعتراض صارخة على مؤسسة الحكم. لكنهم استبعدوا أن يذهب هؤلاء في المجازفة إلى حد وضع أميركا والعالم في عهدة رجل مجازف. رجل ليس جمهورياً وليس ديموقراطياً. ولم يسبق له أن انتخب. لم يدخل برلماناً ولم يدخل حكومة. رجل يقول ماذا يرفض أكثر بكثير مما يقول ما يريده.
إنه عالم يتغير. أخطأت استطلاعات الرأي ومعها صحف عريقة. الغريب أن دولاً غربية كبرى ارتكبت الخطأ نفسه وبينها بريطانيا. اهتمت في الأسابيع الماضية بالاستعداد لعهد هيلاري كلينتون. لم تحاول الاقتراب من فريق ترامب لفهمه تحسباً لمحاورته لاحقاً والسعي إلى التأثير فيه. وحين ترتكب وزارة الخارجية البريطانية صاحبة الخبرات والملفات خطأ من هذا النوع، لا يستغرب أن ترتكب مثل هذا الخطأ وزارات ليست طويلة الباع في علم التحسب والتنبه والاستباق.
ما قاله ترامب إبان حملته الانتخابية الشرسة عن التجارة الحرة والمناخ والرئيس الروسي والاتفاق النووي مع إيران لا يكفي لاستخلاص سياسة. إنه يشبه طلقات متفرقة في كرنفال انتخابي وليس تصوراً للتعامل مع شبكة مصالح واسعة في عالم شديد التعقيد. إننا إذاً أمام رجل غامض ستؤثر قراراته بالضرورة في أمننا واستقرار دولنا سواء اختار الانخراط أو الابتعاد.
أوضح تعبير عن القلق من وصول الرجل الغامض، جاء على لسان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. قال إن العالم «سيضيع عامين حتى انتهاء السيد ترامب من التجول في العالم الذي لا يعرفه». وأضاف: «نحتاج إلى أن نعلم الرئيس المنتخب ما هي أوروبا وكيف تعمل». وكان وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير أدرج ترامب في سياق «دعاة الكراهية» الذين يتلاعبون بمخاوف الناس. لكن يونكر وشتاينماير يعرفان الآن أن القرار سيكون في عهدة الرجل الغامض الذي يعتبرانه جاهلاً أو كارهاً.
لا أفكار الرئيس المنتخب واضحة ولا أسلوبه. بعض الذين عملوا معه تحدثوا عن إصراره على النجاح وتبرمه بالمنتقدين والمتحفظين. قالوا إنه اعتاد على التعامل فقط مع حفنة مديرين. يفوض إليهم صلاحيات لكنه لا يقبل منهم أقل من الولاء الكامل. وإنه يتأثر أحياناً بالانطباع الأول. وبآخر رأي يسمعه. وإنه ليس صبوراً ولا يحب الاجتماعات الطويلة المثقلة بالنقاشات والتفاصيل. وإن قراءة الكتب ليست بين عاداته. وإنه يعتبر نفسه شديد الذكاء لأنه يدرك التوقيت الملائم لإبرام الصفقة.
هناك من يعتقد أن الرئيس المنتخب ليس صانع أفكار في السياسة الدولية. وأنه قد يلعب في البيت الأبيض دور رئيس مجلس الإدارة لكن مع ترك دور المدير التنفيذي لفريقه الوافد من الحزب الجمهوري. ويرى هؤلاء أن التأثير في سياسة الرئيس سيكون ممكناً عبر هذا الفريق.
ماذا يفعل العرب في عهد الرئيس الغامض؟ لا خيار غير الاقتراب من رئيس مجلس الإدارة وخصوصاً من فريقه. والاقتراب يعني إعداد الملفات وتبيان المصالح المشتركة. ميل ترامب إلى الرقص مع بوتين بدلاً من مواجهته ليس بالضرورة خياراً نهائياً. اعتراض ترامب على الاتفاق النووي مع إيران قد يتحول أيضاً إدراكاً لدورها في زعزعة الاستقرار في الإقليم عبر تصدير الثورة والميليشيات. تأكيده ضرورة القضاء على «داعش» قد يقوده إلى إدراك مستلزمات الحل السياسي في سورية وضرورة استعادة العلاقات القوية مع دول الاعتدال العربي.
لا يستطيع العرب الاستمرار في التخبط في النكبة. أرضهم مستباحة في أكثر من مكان. خسائر «الربيع العربي» بلغت 614 بليون دولار وفق الأمم المتحدة. ملايين العرب في مخيمات النزوح. وملايين الأطفال العرب خارج المدارس. يحتاج العرب إلى جهد استثنائي لإقناع أميركا بلعب دور يوقف انزلاق الشرق الأوسط، خصوصاً في شقه العربي، نحو هاوية أشد هولاً. يحتاجون إلى ديبلوماسية نشطة وعصرية وإلى إعلام مقنع في الداخل والخارج.
لا تستطيع أميركا ترك الشرق الأوسط يسافر من هاوية إلى أخرى. تمزقاته تنذر بإغراق العالم بالانتحاريين وأمواج اللاجئين. المصالح الأميركية ليست بمنأى عن الأخطار. استعادة التوازن الدولي في الشرق الأوسط قد تساعد في استعادة التوازن الإقليمي الذي لا غنى عنه لإطفاء الحرائق المستعرة.