نحن، دول الشرق الأوسط، تجمعنا صفتان رئيستان. نحن دول نقع جغرافياً في منطقة اصطلحت الاستراتيجية العسكرية الغربية على تسميتها «الشرق الأوسط». نحن أيضاً دول أكثرها، بل كلها، يعيش مرحلة سياسية واجتماعية مضطربة. يقف إلى الشمال من حدود هذه الدول الاتحاد الروسي على مساحة هائلة من الأرض، يشكل الروس بين سكانها الأغلبية تماماً كما يشكل العرب في الشرق الأوسط بين سكانه الأغلبية. هنا ينتهي الشبه. هناك الروس يمثلون قاطرة النهضة وهنا العرب منفرطون ومرتبكون ومتشابكون في أكثر من نزاع.
لا تحتاج العلاقات الراهنة بين عدد غير قليل من دول الشرق الأوسط والاتحاد الروسي إلى خبير في العلاقات الدولية ليعلن بالوضوح الممكن أنها تمر بمرحلة شديدة الحساسية ومستقبلها رهن ظروف بالغة الدقة وحافلة بالأخطار. تفوح من بعض أوجه العلاقات الراهنة رائحة الحرب الباردة وصراع القوتين الأعظم، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وتفوح من أوجه أخرى روائح وضع ترتيبات لنظام دولي جديد ووضع ترتيبات لنظام إقليمي جديد وروائح خلفتها تحولات أطلق بشائرها أو نذرها ما عرف بثورة الربيع العربي ونشهد نماذج لها في صور وسياسات شتى تركز على الشباب والنساء. يهمني أن أشير هنا إلى أن القيادة السياسية الروسية لم تكن غافلة عن تطورات الأحداث في الشرق الأوسط وفي القمة الدولية، بدليل أنها قررت فجأة ألا تسمح لهذه الفرصة بأن تضيع قبل أن تحقق لروسيا أكبر فائدة ممكنة وتحصل على دور نافذ ومؤثر، هذا إذا لم يسعفها الحظ فتكتسب بالفعل الجاد والتدخل المحسوب حق الهيمنة والقيادة في المنطقة بأسرها.
تابعنا بالفضول العادي ثم بالقلق المشروع تدخل الروس في شأن ثم في شأن آخر من شؤون دول الإقليم. ثم حدث ما أثار فضولنا غير العادي. حدث قبل أسابيع أن تسارعت الحركة الروسية، ديبلوماسياً وعسكرياً وسياسياً. كان واضحاً أن موسكو أرادت أن يكون على يديها وصادراً عنها الإعلان عن الانتصار على «تنظيم الدولة الإسلامية» وغيرها من قوى الإرهاب في سورية. ثم اتضح لنا بشكل أو بآخر أن للتسريع دوافع أخرى أسجل هنا بعضاً منها كما تصورتها مجموعة عمل اشتغلت على الدور الروسي في الشرق الأوسط.
أولاً: تصورنا الرئيس فلاديمير بوتين وقد استعد لتنصيب نفسه زعيماً وليس مجرد رئيس للاتحاد الروسي. وبالفعل وجدناه يعلن ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة في ربيع العام المقبل مستقلاً عن الأحزاب. كان هذا الإعلان دليلاً جديداً على أن التعجيل بإعلان النصر في الحرب الروسية على الإرهابيين الإسلاميين في سورية ضروري لتأكيد شعبيته. أراد أيضاً تذكير شعبه بدوره في القضاء على إرهابيي القوقاز وتخليص روسيا منهم. هو إذاً رئيس فوق العادي. هو زعيم. هنا تجب الإشارة إلى أن الرئيس بوتين تعمد ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال العودة لحرب أخرى ضد الإرهابيين، ففي تعريضه بسياسات الاستخبارات الأميركية في مؤتمره الصحافي فضح حقيقة أن القوات التابعة لهذه الاستخبارات سمحت لفلول «داعش» المنهزمين بالمرور إلى العراق بنية إعادتهم في وقت لاحق وتكليفهم بإثارة الاضطرابات في سورية أو غيرها. لا يفوتنا أن نذكر الرأي العام العربي أن لدى الرئيس بوتين من المعلومات عن ممولي الإرهاب الإسلامي في داخل الشرق الأوسط وفي الخارج ما يمكن أن يتسبب في أزمة هيكلية عميقة في العلاقات الدولية.
ثانياً: أغلب الظن أن الرئيس بوتين أدرك، كما يدرك بعضنا، أن الرئيس دونالد ترامب صار في وضع داخلي صعب. ونحن لا نبالغ عندما نصرح باعتقادنا أن الرئيسين ترامب وبوتين يربط أحدهما بالآخر حبل سري. لا مؤامرة وراء هذا التصور ولا مبالغة كما أسلفنا، بل هي شهادة الواقع كما كشفت عنه تحقيقات أولية عن صلات واتصالات سبقت وصول المرشح ترامب إلى سدة الحكم. لا جدال في أن روسيا استعادت خلال السنة الأولى من حكم الرئيس ترامب نفوذاً دولياً، بخاصة في الشرق الأوسط ما لم تحققه في ظل سنوات حكم الرئيس باراك أوباما. في ضوء هذه الحقيقة يصير منطقياً الاعتقاد بأن بوتين يتعجل تأكيد وتثبيت قواعد نفوذ روسيا في الخارج خلال فترة ترامبوية تزداد انكماشاً في المدة وضعفاً في القوة.
ثالثاً: نحب ترامب أو نكرهه أمر لن يمنعنا من الاعتراف بأن الرجل عنيد. لم يتراجع ترامب عن وعد واحد قطعه على نفسه خلال الحملة الانتخابية. لا يزال موقفه ثابتاً في قضية المناخ والتجارة الدولية والانسحاب العسكري من الخارج إلا مقابل مبالغ مالية يسددها الطرف الذي يطلب الحماية الأميركية. موقفه ثابت أيضاً من إسرائيل. أكده مراراً ويؤكده، وآخر دليل على التزامه تنفيذ ما تطلبه إسرائيل هو القرار الذي وقعه أمام ملايين المشاهدين ويقضي باعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وليس عاصمة لدولتين في المستقبل كما يزعم بعض المبررين والمتطوعين بالتفسير. في رأيه -كما في رأينا- الأمر منته. القدس في يد إسرائيل لتفعل بها ما تشاء ولا شأن للفلسطيني أو المسلم أو المسيحي بها إلا ما تقرره له إسرائيل. المعنى بالنسبة للرئيس بوتين كالمعنى بالنسبة إلينا، لقد نفذ الرئيس ترامب وعده لإسرائيل ولن يعود عنه، ولعله كما يعلم الرئيس بوتين أن الدول العربية المؤثرة لن تقوى على الاعتراض، وفي كل حال لديها ما يقلقها في مجالات ومواقع أخرى. بوتين يدرك أيضاً أن تصفية قضية فلسطين تعني أن تحالفات قوية سوف تنشأ على الفور في الشرق الأوسط، وأن هذه التحالفات سوف تشعل المنطقة ناراً يستدعي التعامل معها تدخل روسيا وربما دول أوروبية وآسيوية أخرى. لذلك كله وجب التعجيل باتخاذ إجراءات روسية معينة في شتى أنحاء الإقليم.
رابعاً: تطوران لا شك أثارا القلق لدى صانع السياسة في روسيا، إذ انعقد في الصين المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، وهو المؤتمر الذي دشن الحلم الصيني حقيقة واقعة. هناك الآن خطط استثمارية وتوسعات عسكرية لحماية التجارة الخارجية الصينية وفي قلبها الشرق الأوسط. في الناحية الأخرى وافق الكونغرس الأميركي على موازنة دفاع أكبر من أي موازنة تقررت خلال السنوات الست السابقة. هي الموازنة الأضخم في غير وقت الحرب. معنى هذين التطورين أن سباقاً للتسلح سوف يفرض نفسه على روسيا. هذا الموضوع مرفوض نظرياً في موسكو، إذ إن سباقاً مماثلاً فرضه الرئيس دونالد ريغان في الثمانينات لعب دوراً رئيسياً في إسقاط النظام السوفياتي. بوتين لن يدخل في سباق مع الصين وأميركا في وقت واحد، ولكنه في الوقت ذاته لا يملك رفاهة الانتظار حتى تتفوق الدولتان وتحتلان مركزي القيادة في شكل قطبين في نظام دولي ثنائي القطبية. الحل الوحيد هو التعجيل بتثبيت الهيمنة الروسية في مواقع شديدة الحساسية الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وهي الهيمنة التي تسمح لروسيا بأرصدة قوة تساوم بها لتحصل على دور القطب الثالث في نظام متعدد الأقطاب. سمعنا بوتين يؤكد في مؤتمره الصحافي أنه لن يدخل سباق التسلح ولكنه لم يذكر شيئاً عن رحلة تثبيت حال القوة والهيمنة في ثلاثة مواقع، قناة السويس وسورية وممر البوسفور، هي من دون أدنى شك الأهم والأشد حساسية في الشرق الأوسط وفي حسابات أي دولة تعد نفسها لمنصب في قيادة النظام الدولي.
الروس يتحركون بسرعة، وفي ظني أنهم توصلوا مع الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين إلى صيغة تفاهم تناسب الظروف الاستثنائية التي يمر بها الشرق الأوسط. في ظني أيضاً أنهم توصلوا إلى صيغ ثنائية موقتة ومرتبكة مع أكثر من دولة عربية وفشلوا في التوصل إلى أي صيغة مفيدة مع دول عربية أخرى. العرب، وهم الأغلبية في الشرق الأوسط، من دون موقف.