لا ندري كم لا تزال المفاهيم الديموقراطية العريقة تعني اللبنانيين وتثير شغفهم في بلد بات اخطر ما يتهدده تحلل ماض كان يرفل فيه بصفته النموذج الديموقرطي الفذ الوحيد في عالم العرب وصار اليوم يمضي بفراغ لا احد يدري متى نهايته. نقول ذلك ونحن نعاين آخر مواسم الانتخابات في احدى اعرق الديموقراطيات اي بريطانيا التي اعادت المحافظين بقوة الى الحكم وأسقطت ثلاثة زعماء أحزاب كان في مقدمهم زعيم حزب العمال اد ميليباند ابن الخامسة والأربعين من عمره. لا يعنينا كثيراً ان نرى رئيس الوزراء الظافر بنصره الساحق ديفيد كاميرون يدخل زاهياً الى 10 داوننغ ستريت في مشهد هو من طبائع متأصلة في هذه الديموقراطية العتيقة . يستوقفنا أكثر ان يسارع زعماء سياسيون وأهمهم الزعيم الشاب ميليباند الى التسليم بالهزيمة والاستقالة تحملاً لمسؤولياتهم.
لا تبلغ طموحات اللبنانيين وأحلامهم حدود ان يروا زعامات ومسؤولين ووزراء ونواب يستقيلون من طوعهم . هذه لم تكن من “طبائع” ديموقراطيتنا أصلاً الا في النادر جداً من الحالات الفردية النخبوية الإصلاحية تاريخياً وتكاد تندثر في التاريخ الحديث للازمات الداخلية . ولكن تاريخ الزمن الجميل في لبنان ولو شهد تعاقباً للأزمات على صورة ظروف ذاك الزمن كان فيه حد ادنى اشد احتراماً لأصول اللعبة من زمننا هذا بألف ضعف على الاقل. ناهيك عن ان “قماشة” قامات ذاك الزمن، ولو انهم لم يكونوا قديسين بطبيعة الحال، اكتنزت الحدود القصوى من ثقافة الأصول الموروثة من مدارس الديموقراطيات العريقة بدليل ان جمهورية ١٩٤٣ لا تزال متفوقة جداً بمعايير الديموقراطية على جمهورية الطائف سواء تحت نير الوصاية السورية او متحررة منها.
غير ان المطل علينا مثلاً مع مرور سنة من الفراغ الرئاسي سيغدو اشد قتامة في معاينة التدهور المخيف والانهيار المتدحرج في أحوال الديموقراطية اللبنانية ليس من واقع تعطيل الانتخابات الرئاسية وتطبيع البلاد قسراً مع جمهورية بلا رئيس فحسب بل ايضاً من تمدد عدوى التعطيل أفقياً وعمودياً وانتفاء القلة القليلة الباقية من هياكل النظام الديموقراطي حتى بحدوده الشكلية. لا نفهم مثلاً تلك الاحجية التي تستدعي تعطيل “تشريع الضرورة” من جانب قوى مناهضة لمعطلي الانتخاب الرئاسي وكأنها تستسقي التعطيل بمثله بدل ان تندفع قدماً في اشهار سلاح فرض الانتظام الديموقراطي للمجلس والنيابي والحكومة في مواجهة المعطلين . وطبعاً لن نفهم كذلك التهديد بإمعان في التعطيل وشل الحكومة اذا لم يتحقق توافق على الطلب المعروف في ملف التعيينات الامنية والعسكرية.. وحتماً ليس من المفروض ان نفهم المعطل والموصول به الا من زاوية عجيبة غريبة هي “الحق المشروع” في القضاء على الجمهورية. وقد فهمنا و”كترنا”!