Site icon IMLebanon

كلّنا مرتزقة

 

 

ربما لا يعرف الكاتب الأميركي المميّز روبرت كابلان أن جزءاً كبيراً ولعلّه الأوسع من النخب العربية في منطقة بلاد الشام والعراق (وحتما ليبيا) بات يفضِّل العنوان الذي كان وضَعه لمقالِهِ رئيسُ تحرير الصحيفة واعترض عليه كابلان في خلاف مكتوب ومعلن، مهم وطريف، بين مجلة “فورين بوليسي” التي نشرت مقال كابلان وبين الكاتب.

قال روبرت د. كابلان في الاعتراض الذي بعث به للمجلة الكبيرة (التي أيضا أصبحت جريدة إلكترونية)   أن العنوان الذي اقترحَتْهُ المجلة وهو: “حان الوقت لإعادة الامبريالية إلى الشرق الأوسط” قد شوّه الموقف الأصلي لمقاله وأنه، أي كابلان، كان يفضِّل العنوان التالي: “مرحباً بالشرق الأوسط ما بعد الامبريالي”.

واضح أن الخلاف كبير في الهدف ولكنْ وليس في المعنى الأصلي للنص. فنص كابلان المنشور في الخامس والعشرين من أيار المنصرم يقول ما خلاصته أن النظام الذي حَكَم منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى وأدارته القوى الأوروبية ثم الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية قد انهار بسبب تراجع أو انسحاب هذه القوى الامبريالية الغربية منه ووقوفها ضد الديكتاتوريات التي كانت تحكم عددا من دوله مما أدى إلى انهيار الدول المصطنَعة فيه التي لم تكن دولَ حدودٍ ثابتةٍ على مدى التاريخ كسوريا والعراق وليبيا بينما دول مثل تونس ومصر والمغرب كانت لها شخصيتها الدولتية دائما. المهم أن كابلان يقول أن الأنظمة الاستبدادية كانت الوسيلة الوحيدة لحفظ هذه الدول المصطنَعة موحّدةً وانهيار الاستبداد عنى انهيارها.

هو فعلا لا يدعو صراحةً إلى عودة الامبريالية ولكن كل منطق مقاله الناقد للتراجع الغربي أمام القوى الإقليمية التي تعبِّئ هذا الفراغ ولاسيما إيران، يجعل المقال عمليا دعوة صريحة لعودة الامبريالية. في أي حال يستطيع المراقب أن يؤيد هذا التمييز بين دول مصطَنعة و”طبيعيّة” على الأقل في الحالة المصرية. لأن مصر الدولة أظهرت حتى الآن مقدرةً كبيرة في الحفاظ على تماسكها وبالتالي تماسك المجتمع خلافا لمحيطها المشرقي العربي وجارتها المغاربية ليبيا.

لن أدخل في كل تفاصيل المقال المليء بتنوّع المستويات، والكاتب هو مؤلِّف الكتاب الشهير “الفوضى القادمة”، وإنما سأقف عند المفارقة التي يثيرها الخلاف بينه وبين هيئة التحرير.

ربما لا يعلم السيد كابلان، أو يعلم، أنه لو أجرى استفتاءً بين النخب المدنية والليبرالية والعلمانية والدينية المعتدلة في العديد من دول العالم العربي وتحديدا في منطقتنا الشامية العراقية بمعناها الواسع الذي يشمل فلسطين ولبنان والأردن لوجد أن الاتجاه الأساسي لهذه النخب هو تمنّي عودة الدول الغربية أي الامبرياليّة لاستلام مقاليد بلداننا المشرقية كوسيلة وحيدة للخروج من الجحيم الذي وصلت إليه حروبا وتهجيرا ودمارا ومذابح ووحشية.

الزمن الامبريالي بالنسبة للكثير من هذه النخب بات الزمن الذهبي للاستقرار والتقدم والحداثة.

سأقف عند بعض النقاط السجاليّة:

حتى في مسائل إشكالية من نوع قضية فلسطين، وبمعزل عن المسؤولية التاريخية الأكيدة والثابتة لدور القوى الغربية في النكبة الفلسطينية عام 1948، دعونا نسأل اليوم عما آلت إليه قضية فلسطين؟ هل يشك أحدٌ حاليا أن تأسيس دولة فلسطينية بات فقط مشروعاً دوليا لا عربيا ولا مسلماً بمعنى أن الديناميكية الرئيسية إنْ لم تكن الوحيدة التي تختزن إمكانية استكمال تأسيس الدولة الفلسطينية هي الديناميكية الدولية لا الفلسطينية، مع كل الاحترام لاستمرار عذابات الشعب الفلسطيني، ولا العربية ولا المسلمة.

على مستوى آخر: ماذا يعكس هذا الحماس النخبوي والشعبي والاقتصادي، وخصوصا الشباب والنساء ورجال الأعمال والتكنوقراط، في إيران لإنجاز الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأميركية غير هذه الحقيقة الجوهرية والقائمة على أن نخب الشرق الأوسط باتت تنظر إلى ازدهار مستقبلها عبر ارتباطه بالغرب؟ الذي يقوله “الدرس الإيراني” العميق أنه حتى القوى ذات التاريخ من الصدام والخيبات مع الغرب يحصل تغيير أو بداية تغيير بنيوي  ملموس في ثقافتها.

مستوى ثالث: المعارضة السورية المدنية والعلمانية أين هي اليوم غير في أحضان وزارات خارجية واستخبارات الدول الغربية بل أين هو النظام السوري نفسه لو أتيح له المجال للتفاهم مع الغرب وعودة المقبولية من الغرب.

المأخذ على المعارضة المدنية والعلمانية السورية ليس مشروعها الغربي وإنما هزالها الميداني والسياسي الذي يجعلها من دون دور جدي في الصراع وأقرب إلى “مرتزقة ديموقراطية” ضد نظام استبدادي أمني عنيف واستئصالي لم تعد معركته معها وإنما مع قوى إسلامية تكفيرية لا مشروع لها وإنما هناك مشروع وراءها.

كلنا سيد كابلان نريد الغرب وعندما لا يأتي نرسل أبناءنا إليه. السؤال الجوهري هو مع الأسف بات دونيّاً جدا في انهياراتنا الهائلة دولاً ومجتمعات ليس هل نحن نريد الغرب بل هل يريدنا هذا الغرب  فعلا؟

يولد حالياً جواب أو بداية جواب مقلق جداً: وهو ملامح خيار غربي غير عربي، أي إسرائيلي إيراني تركي…؟؟؟