يجب أن لا يحول وسخُ الاستبداد المتأصّل في عالمنا العربي والمسلم دون أن نكون صارمين مع الميول والممارسات السلطويّة الفضائحيّة التي عادت تظهر مجدّداً في تركيا (منذ تظاهرات ساحة “تقسيم” صيف 2013 في الواقع) بقيادة الرئيس رجب طيّب أردوغان.
تركيا هي البلد المسلم الأكثر حداثة وتقدّما في الشرق الأوسط ولأنها كذلك، أي لأنها أملنا الوحيد الحالي في قيام علاقة ناجحة بين الإسلام والحداثة، علينا أن نكون صارمين في رصدنا للانحراف السلطوي الخطير الذي يتورّط فيه تكرارا واتساعاً رجب طيّب أردوغان.
يجب أن لا يحول التخلّف العربي بل “الانهيار” الحضاري والسياسي العربي دون أن نقف مع النخب التركية الشبابية والسياسية الليبراليّة والثقافية والاقتصادية المتزايدة التي تواجه بشجاعة وبمعايير ديموقراطية غربية الهجمة الاستبدادية الحالية لرجب طيّب أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” على الحريّات في تركيا.
إنها مسألة داخلية في العالم العربي أن نكون معنيّين بالمعركة الدائرة حاليا لوضع حد لهذا الانحراف. وسيكون نجاح إسقاط الاستبداد الجديد نجاحا لقضيّتي الحداثة والديموقراطية في كل بلد عربي ومسلم في الشرق الأوسط وإفريقيا لأن هذا النجاح سيعطي كل المناضلين من أجل الديموقراطية والتحديث معيارا استراتيجيا هو الحالة التركية المتقدمة بل هو النموذج التركي المتقدم عن محيطه العربي والمسلم.
رجب طيّب أردوغان “الثاني” يهدد “القوة الناعمة” التركية بعدما خدمها رجب طيب أردوغان الأول. أردوغان الثاني بدأ يقيم نظاما مدنيّاً بوليسيا يقمع الحياة العامة التركية بخطاب شعبوي وقوة عددية فقدت معظم دعمها النخبوي النوعي. بينما أردوغان الأول قاد أكبر عملية لإنهاء الوصاية العسكرية على الدولة والحياة السياسية التركيّتيْن منذ تأسيس الجمهورية. هو الآن يستخدم هذا النجاح لتكريس ديكتاتورية فردية حزبية مترافقة مع بعض مظاهر “جنون” العظمة وطبعاً، كما يحصل عادةً في التاريخ، مع الفساد والزبائنيّة.
وجودنا في عالم عربي تحكمه سلطات استبدادية متخلّفة في معظمه وتدير في كل منها إما دولة منهارة إو سلما أهليا هشا بلا أفق تنموي حقيقي… هذا الوجود هو مبرّر أساسي للاهتمام الكثيف بالوضع التركي. أولا لأن معايير المعركة الديموقراطيّة في تركيا هي أرقى من معاييرها العربية (والإيرانيّة) الراهنة (باستثناء دول قليلة وبصورة خاصة تونس والمغرب). لكنّ هناك قواسم مشتركةً أهمها حاليا المواجهة مع نزوع إسلاموي حوّل “عودة” تركيا إلى منطقتنا، العودة التي طالماانتُظِرتْ، إلى مسار من تعزيز الحروب الأهلية والمذهبية التدميرية.
في سوريا، وبمعزل عن عنف النظام القائم الشديد وعدم انفتاحه على التغيير، فإن تركيا رجب طيّب أردوغان أصبحت قوة تدمير سورية بل قوة دعم التدمير الأساسية في سوريا ناهيك عن كونها قوة دعم التوحّش الداعشي الأساسية وإحدى القوى المتنافسة على دعم التوحّشات الأصولية الأخرى التي أفسدت المشروع الديموقراطي لجيل شبابي سوري بكامله.
في مصر، التي تكافح الإرهاب بمشقّةٍ ونجاح للحفاظ على تماسك الدولة بعدما تخطّت الحرب الأهلية التي انتهجها “الإخوان المسلمون”، تركيا قوة عدم استقرار خطير. في العراق الأمر نفسه.
هذه ليست تركيا التي نريد. الذي تريده النخب التركية الجديدة، ونريده معها هي تركيا النموذج المناقض لأنماط الاستبداد العربي والمسلم. وهذا رهان جوهري ستنجح فيه تركيا في نهاية الأمر من حيث تجاوزها للوضع الحالي.
حين يقول الرئيس أردوغان للاتحاد الأوروبي المنتقد بشدة حملة الاعتقالات الإعلاميّة يوم الأحد المنصرم “اهتمّوا بشؤونكم” بعد بضعة أيام من استقبال تركيا لوفد رفيع المستوى من الاتحاد ومطالبته بإعادة المفاوضات المجمّدة حول دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي… فإن موقفه يصبح في غاية التناقض واللامنطقية.
ثم من قال أنه على مستوى القيم والمعايير الديموقراطية، لا على مستوى سياسات المصالح، ليست أوروبا مرجعا أساسياً في عالم اليوم؟
الحداثة لا تتجزّأ.