Site icon IMLebanon

إننا لسنا هنا

هل من أحد يرفع قبضته ويقول: «إنني هنا»؟ عبث! في هذه البلاد ما يفيض عن الحاجة لإعلان ثورة ما، إلى اعتراض ما، إلى موقف ما، على سؤال ما… في لبنان ما يكفي لإعلان عصيان بهدف مقاطعة «قطاع السياسة» أو لمنازلة قضائية، تخلَّف «القضاء الرسمي» عن تسمية الجرائم والمجرمين… في هذا الكيان من الخطايا والارتكابات السياسية والمالية والأخلاقية، موقعة بأسماء مرتكبيها، ما يجعل الكيان وصمة لا تُمحَى.

في هذه البلاد سراب كافٍ ومزمن، وحريات رخيصة جداً يتم تداولها كسلعة كلامية فقط. لا أحد هنا بعد. لم يُشهر أحد قبضته بعد، ولم يُطلق العنان لحنجرته. هي صيغة من صيغ الموت المتين والمهيمن والمحروس، أو، قد تكون الأرض هنا قد توقفت عن الدوران، فيقال: «هذا هو لبنان»، وعليك أن تتحمّل أعباء لبنانيتك بجدارة العجز عن الفعل والتغيير، ولو بشكل وئيد وتبدّل طفيف. هذا السيئ جداً هنا، يرثه الأسوأ. قانون خلدوني: استعصاء الصعود في زمن النزول إلى ما قبل العمران والحضارة.

لا يصدَّق هذا الانعدام، لشعب أنجب مقاومة تلو مقاومة، منذ نصف قرن، أنهكت الاحتلال الإسرائيلي وانتهت بطرده، وبرغم ذلك يظل في ما بعد عاقراً، يساير «احتلاله الداخلي» ويواسيه ويتآخى معه. يدعمه ويخفف من وطأته ويغفر له جرائمه، بممحاة الالتزام الطائفي. يعرف جرائم «المحتلين» السياسية والمالية والأخلاقية ويبتكر من التبرير المذهبي ما يجعل الارتكاب أحياناً بطولة والمرتكب ساحراً يستحق التأييد والمبايعة. شعب يستطيب أكثرُهُ التحالفَ مع أطراف في السلطة ضد أطراف فيها كذلك. هي أطراف مختلفة كثيراً في ما بينها، متشابهة إلى حد المطابقة، كلها.

في السيرة الذاتية للبنان، غياب أصيل للرأي العام. من دونه، تتحوَّل السلطة إلى تسلّط وتفرغ المؤسسات من أهدافها: خدمة الناس. تصير السياسة حكاية صفقات متبادلة، تسمَّى تسويات وتوضع في مصاف «الميثاقية»… في السيرة الفعلية للبنان، فإن الرأي الطائفي الخاص، أو المذهبي المبرم، هو البديل عن الرأي العام المذهبي أو الطائفي. هذا «رأي عام»، لا رأي له. فاقد الأهلية والجدوى بسبب انتمائه وانتسابه إلى ما هو دون الوطن بكثير، ودون الدولة بمسافات. لا يُقال للطائفي أو المذهبي أن يفكر أو أن يبتكر. لا يجد مشقة في الطاعة والقبول بالقوالب الجاهزة. «البيئات الحاضنة» لا رأي لها. يأتيها القرار من فوق وتندفع في تأييده حتى الثمالة. فالطائفي والمذهبي لا عقل له، هو كائن مطيع ويجتهد بجدية وحماسة لتأكيد تبعيته. لا وجود له إلا بالتبعية. من دونها، هو في حالة نقصان أو انعدام…

«الخوارج» عن الطوائف والمذاهب كثرة قليلة. العلمانيون، كثرة مشتتة. الأحزاب، «كانت لها أيام» وانحسرت. هؤلاء، لهم رأي لم يصل إلى مرتبة العام. فرقتهم وتمزّقهم من علامات العجز ومن دلالات البطالة. وجودهم وعدمه سيان. فهل من نداء استغاثة لأحد ما، كي يصبح هذا الكم النوعي موجوداً بالفعل، ليعلن عن التحضير لصياغة رأي عام وطني ويقول: «إنني هنا»… حتى الآن لا أحد بعد. الانتخابات البلدية المقبلة، امتحان لهؤلاء. هي مناسبة لإعلان القطيعة الفعلية مع التقليد العائلي، الطائفي، المذهبي، التحالفي والصراعي معاً، الذي احتلّ مكانة المجالس البلدية… إذا لم يحدث شيء متواضع مثل هذا، فإن ما سيحدث في الموسم البلدي، قد حدث من قبل، وسيحدث مثله من بعد. الندم لا ينفع أبداً.

إنه وباء من صناعة لبنانية. هذا الشعب الممتلئ حيوية كوفئ بعزله عن المشاركة. شيء من التأنيب ينتاب النخب المستقيلة. ما كان ممكناً تصور وطن ما بعد الحرب اللبنانية بهذه الصيغة الميليشياوية المافيوزية. فجور مذهبي وطائفي لا حدود له في السياسة. فجور أفرغ الدولة بكاملها. جعلها «اتحاد مغاور»، لا تعايش «عائلات روحية». هذا في ذروة الإسفاف والدونية. لقد سرقت الطوائفيات الدولة. بنت دويلاتها بسواعد بيئاتها الحاضنة. وهي بيئات تتبارى بالثراء الفاحش وتبحث عنه. إنما الفتات للعامة والمغانم للخاصة التي تعيش في أبراجها من فوق… التباكي على الفراغ فجور. «كلهم يعني كلهم». وجوه كالحة كلما نطقت كذبت. تطلق من الكلام والأحكام بما يشبه ذروة في الاحتقار والتلذذ في استهلاك الناس حتى الرمق الأخير من الضمير.

كيف تطاق دولة وسلطة فيها هذا السيل الدائم من الفضائح في الكهرباء، في الحياة، في الأملاك البحرية، في مخالفات البناء، في الاعتداء على المشاعات، في الخوة، في الصفقات والمناقصات وفي التراضي؟ كيف تطاق دولة مزبلة، وسلطات مستهترة وكاذبة. ماذا عن ملف الخلوي؟ ماذا عن اللواقط غير الشرعية؟ ألم يرها أحد؟ ماذا عن جريمة الاتجار بالبشر والاستعباد الجنسي؟ ماذا عن التجارة بالنازحين السوريين؟ ماذا عن إنفاق سيَّال بلا موازنة ولا محاسبة؟ ماذا عن فساد الغذاء والدواء والضمائر؟

مَن يستطيع أن يحتمل هذا وأكثر منه، لما سيرد في الأسابيع المقبلة؟

الرأي الخاص الطائفي هو المسؤول. مسؤوليته، أنه تابع ولا يحاسب ومتواطئ. أما الآخرون، فلم ينبرِ أحد بعد، بصيغة الجمع الفعال، ليقول: «إننا هنا». لذا، سنظل في رعاية الفساد، وهذا الفساد، هو أصل النظام ومنعة أهل السياسة.