نكتة سوداء أن يتقاسم وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والإيراني محمد جواد ظريف جائزة «تشاتام هاوس» الديبلوماسية، عن دوريهما في إبرام الاتفاق النووي الإيراني، فيما الأميركي يكتفي بدموع باردة يذرفها على السوريين ضحايا الجحيم الروسي- الإيراني.
نكتة مبتذلة أن تعرض طهران التوسُّط بين بغداد التي تقاتل «داعش» في معركة الموصل، وأنقرة التي تصرّ على دور في محاربة التنظيم في شمال العراق، ومطاردة «إرهابيي» حزب العمال الكردستاني. فالأتراك يدركون أن إيران هي الحاكم الفعلي للعراق، بغطاء أميركي، وإصرار حكومة حيدر العبادي على استبعاد أي دور لأنقرة في معركة تحرير الموصل، يعكس رغبة إيرانية في التصدّي لسعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تكريس نفوذ إقليمي لبلاده، في انتظار مرحلة التسويات الكبرى لملفّي العراق وسورية… وربما تغيير الخرائط.
وإذا كان التراشق العراقي- التركي بالاتهامات ولغة «الاستفزاز»، مرشّحاً لفصل آخر من التصعيد، نتيجة إصرار أنقرة على ما تراه «حقاً مشروعاً» في الدفاع عن النفس وراء الحدود، فاللافت هو توسيع حملة إعلامية تركّز على «الحقوق التاريخية» لتركيا في أراضٍ في الإقليم، ووثائق تتناول خطاً من حلب إلى كركوك فالموصل.
لم يرَ أردوغان ما يحول دون تبديل عقيدة الأمن القومي لتركيا، مثلما بدّل قيصر روسيا فلاديمير بوتين عقيدة الجيش الروسي الذي بات يعتبر سورية والسوريين حقل تجارب، لاختبار أسلحته الجديدة. وَضَعَ الرئيس التركي خطّين للأمن القومي خارج الحدود، أحدهما من حلب إلى الموصل وكابول، والثاني ينتهي في الصومال… أصرّ على «منطقة آمنة» في سورية، ويصرّ على منطقة «عازلة» في شمال العراق.
وبعيداً من جبهتي الحرب في سورية وفي العراق، وبعيداً من الفظائع التي يرتكبها «داعش»، قد يبدو «المشروع» أو الحلم التركي محاولة استباقية قبل أن تستقر الهيمنة الإيرانية ضمن خطوط جغرافيا توسُّع «الهلال الشيعي» وتشرّعه، وهذه المرة برضا روسي وتغاضٍ من الغرب الذي لا يريد أن يدفع ثمن العجز الأميركي عن لجم شهية روسيا وإيران.
لا يضير واشنطن في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، أن يتفاقم صراع النفوذ التركي- الإيراني، ولا أزمة الثقة مع أردوغان، ولا تمديد دور المتفرّج على «استنزاف» الروس في الحرب السورية. فبين بوتين وتحقيق «الانتصار» هناك بدءاً من حلب، فصول من الدماء والدمار، فيما الخمول الأميركي يشجع القيصر على التمسُّك برهانه على الحل العسكري مع كل المعارضين للنظام في دمشق.
آخر مشاهد فضيحة الدعم الأميركي للمعارضة السورية «المعتدلة»، ما سرّبته صحيفة «واشنطن بوست» من توضيحات للنهج الحالي للإدارة، الذي يركّز على إحالة ملف تسليح تلك المعارضة على خَلَف الرئيس باراك أوباما. وتلك نكتة، لأن الرئيس المتردّد المتلعثم بأهدافه «الإنسانية» الكبرى، لن يُقدِم في أيامه الأخيرة على «مغامرة» وقف المجزرة، بعدما تفرّج عليها طويلاً. وأما الفضيحة الجديدة فهي تشديد مسؤولين أميركيين على أهمية فحصٍ جديد للنيات، يخضع له مقاتلو المعارضة «المعتدلة»، للتحقُّق مما إذا كانوا لا يزالون معتدلين!
وللمرة المئة، يتبيّن التطابق الروسي- الأميركي أو توافق المصالح على تدمير تلك المعارضة، فلا يبقى سوى إمعان واشنطن في التفرُّج على «جرائم حرب» اتّهمت الروس بها… فردّوا بالتهمة ذاتها لقصف التحالف الدولي مواقع في الموصل.
وإذ يبدو ما يرتكبه الروس في حلب إبادة، بذريعة استئصال «الإرهابيين»، لا يبقى بينها وبين إبادة «الدواعش» مدنيين في سورية والعراق، أي خيط رفيع.
بين مدن القتل وبلدات المشرّدين والنازحين ونعوش الأطفال التي لا تصفع وجداناً لدى الأميركيين والروس، الكل مُدان بالجريمة الكبرى، مُدان بتفريخ «داعش»، بعد سنوات طويلة من استخدام الإرهاب سلاحاً «سرّياً» في الصراعات الإقليمية والدولية، ومُدان بتدمير قدرات العرب.
وحدة العراق وسورية تحقّقت، بنكبات الإرهاب بعد الاستبداد، وأما العرب فليسوا لدى الأميركيين والروس سوى أرقام في المذبحة.