موقف جيّد ووطنيّ ومسؤول ذلك الذي أبلَغه الرئيس ميشال عون إلى وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون والقائل في زبدته الأخيرة والأثيرة «بأنّنا ملتزمون الهدوء على الحدود الجنوبية ولا نريد الحرب مع أحد». ومثله تماماً موقف رئيس الحكومة سعد الحريري المطالِب بـ«وقف دائم للنار» مع إسرائيل.
والموقفان بطبيعة الحال يعبّران عن سياسة لبنان «الرسمي» بكل طبقاته وأبعاده ورؤسائه. ويدلاّن على إجماع لحظوي راهن، لكنّه في عمقه يدلّ على خلاصات كفاية وتواضع، تراكمت على مدى العقود الأربعة الماضية بعد أن دفع اللبنانيون من جرّائها أغلى الأثمان وأفدحها.
في فترات الضنى والسواد والبلايا، كان «دور» لبنان في النزاع العربي – الإسرائيلي أحد أبرز عناوين الانقسام الأهلي.. ثم أحد أبرز الأسباب المعلنة للوصاية الأسدية باعتبار أنّ من دونها ومن دون سطوتها ورعايتها لما تبوّأ لبنان مرتبة الساحة الوحيدة المشتعلة في محيط إقليمي آثر الهدوء السيبيري على حرارة «المقاومة» واشتعال الشعارات والمزايدات والمناطحات الفكرية! وكانت جملة، مثل التي قالها رئيس الجمهورية، أو تلك التي قالها رئيس الحكومة كافية لإشعال الدنيا في وجه كلّ منهما، واتّهام الإثنين بكلّ ما يخطر ولا يخطر في البال من موبقات ومُسفّات.
كان لبنان المكسور بحروبه وانقساماته وتهتّك سيادته واندحار دولته وضمور مؤسساته، هو المؤهل المثالي لتعويض الحكم الأسدي عن عجزه المركّب: ليس قادراً على شنّ حرب لفرض تسوية معقولة! وليس قادراً على، ولا راغباً في اعتماد مبدأ «المقاومة» في أرضه المحتلة.. مثلما أنّه لم يكن قادراً (وإن رغب؟!) على التماثل مع مصر أنور السادات، أو مع الأردن الملك الراحل حسين بن طلال!
كانت حاجته مصيرية إلى إبقاء «ساحة» لبنان مفتوحة من خلال «المقاومة» باعتبارها ربط نزاع مع الإسرائيليين والغرب، وسائر الجيران العرب! وليس اعتبارها وسيلة لإتمام «التحرير الشامل» للشريط الحدودي المحتل. ولذلك لم يصدّق إعلان يهود باراك رئيس الحكومة الإسرائيلية في مطلع العام ألفين قراره بالانسحاب! وبقي وزير خارجيته فاروق الشرع «يؤكد» أمام زوّاره، وحتى اللحظات الأخيرة، أنّ إسرائيل لن تنسحب! وباراك يناور ويخدع.. الخ!
لكن إسرئيل انسحبت! ولم تنفع شمّاعة مزارع شبعا في التعويض عن «الخسائر» الاستراتيجية لذلك الانسحاب.. وتغيّرت وظيفة «المقاومة»، أو بالأحرى، صارت أكثر وضوحاً: تحرير الأرض كان جزءاً رئيسياً بارزاً من تلك الوظيفة، لكن الجزء الآخر الذي صار في الصدارة، كان يتعلق بإيران ونفوذها وسياساتها البعيدة المدى، أكثر من تعلّقه بالحكم الأسدي مع الابن الوارث للأب!
بين سوريا وإيران وإسرائيل ضاعت دماء اللبنانيين! واستُرخصت أرواحهم. واستُهين باستقرارهم وإرادتهم وسيادتهم ودولتهم! وكان شيئاً من الكفر أن يسأل سائل في الماضي «لماذا تغيب المقاومة عن الجولان» مثلاً؟! أو أن يسأل أحد اليوم، لماذا لا تقاتل إيران إسرائيل مباشرة طالما أنّها صارت على تماس معها في سوريا؟! لكن الصورة الراهنة فيها أكثر من ذلك بكثير، وإلى حدّ مفاجئ: المواقف الرسمية المُعلنة بالأمس تحظى منطقياً، بموافقة «حزب الله».. وهذا مستجد كبير قائم في ذاته من قِبَل الحزب الذي لا يرى لنفسه دوراً أقل من «تغيير وجه المنطقة»! ويتحيّن الفرصة لـِ«تحرير بيت المقدس»!
.. لكن أيّاً تكن أسباب هذا الموقف المستجد وما إذا كان تكتيكياً أم شرارة تغيير استراتيجي ضخم.. فهو يحصّن الوضع الرسمي إزاء إسرائيل والولايات المتحدة تحديداً، باعتبار أنّه يؤكد (أخيراً؟!)، أنّ «حزب الله» هو الذي «جاء» إلى الإرادة الوطنية اللبنانية العامة،.. وإلى «القرار» اللبناني، ولم يأخذهما غصباً وجبراً إليه وإلى ارتباطاته الإيرانية! وهو بذلك (حتى إشعار آخر؟!) يقول من غير أن يُعلن، أنّه يلتزم استراتيجية دفاعية مُجمع عليها! وأنّه في العموم يعطي أشارة أولى كبيرة، على تخلّيه عن سياسة الاستهانة بإرادات غيره من اللبنانيين! أو عدم الاكتراث بها! أو تحميلهم مجتمعين تبعات قراراته الذاتية! أو افتراضه أنّ في شعار «لبنان أولاً» فعلاً خيانياً موصوفاً!
.. إلى هذا الحد وصل نجاح شعار «النأي بالنفس».. عال!