IMLebanon

لدينا مشكلةٌ مع هذا الشخص

كقارئ ومتابع للشؤون العامة لديّ “مشكلة” مع شخص روسي واحد من أصل حوالى 143 مليون روسي هم المجموع المقدَّر لعدد سكان روسيا. هذا الشخص هو السيد دميتري ترينن، المدير الحالي لمكتب مؤسّسة كارنغي الأميركية في موسكو، الضابط السابق في الجيش السوفياتي والأستاذ الجامعي والباحث في الشؤون الروسية.

إذاً الحديث هنا هو عن شخص روسي محترم يدير مكتب مؤسسة أميركية محترمة. أما لماذا المشكلة معه فهي التالي: الدكتور ترينن منذ بدأت الحرب في سوريا هو أحد أكثر الأصوات حضورا وتعبيرا في الصحافة الأميركية الكبيرة كمحلِّل للسياسة الروسية في الشرق الأوسط وأوروبا والعالم. وهو من هذا الموقع كان صاحب رأي لم يكف عن ترداده في السنوات السابقة، وهو أن روسيا، والرئيس فلاديمير بوتين بالذات، لا ينظر إلى الموضوع السوري كملف استراتيجي. لقد دأب السيد ترينن دائماً على التخفيف من الدلالات الاستراتيجية لأي خطوة روسية معلَنة حيال سوريا منذ العام 2011. أصر الدكتور ترينن على هامشية مرفأ طرطوس للسفن الروسية واعتبره لا يتعدّى دور مرفأ تسهيلات لا قاعدة عسكرية. وأصر أن موسكو تستخدم موقفها السوري لمجرد ابتزاز واشنطن وكورقة من أوراق عديدة للحصول على مكاسب في أوروبا ولا سيما لاحقا في أوكرانيا وأنها منذ البداية جاهزة للمساومة على رأس بشار الأسد.

كان دائما يقول ما يحبّ أن يسمعه الباحثون الغربيون والمعارضات السورية والعديد من الأوساط العربية. لا أقول مطلقا أن هذه ليست قناعاته ولكنها فعلا أصبحت نموذجا لخط تحليلي ثبت فشله بل خطؤُه الجوهري في تحليل والأهم في تقدير اتجاهات القيادة الروسية في الموضوع السوري. ولم أكن لأقف عند هذه الملاحظة لولا إطلالته قبل ثلاثة أيام في “النيويورك تايمز” كمصدر رئيسي لتقرير نشرته الصحيفة على صدر صفحتها الأولى يروّج لـ”معلومة” أن استقبال الرئيس بوتين للرئيس بشار الأسد في موسكو خلال زيارته المفاجئة الأخيرة ( والأولى له المعلنة إلى الخارج منذ بدأ الصراع في وعلى سوريا)… أن هذا الاستقبال كان فاتراً؟!

كان لدي شخصيا تجربة نقاش مباشر مع الدكتور ترينن قبل حوالى العامين أو أكثر عبر حلقة حوار حول الوضع السوري نظّمها مكتب مؤسسة كارنغي في بيروت وشارك فيها السيد ترينن عبر السكايب من موسكو وكان النقاش قد انطلق على أساس ورقتين واحدة قدّمها الدكتور ترينن وواحدة قدّمتها أنا بطلب من مكتب كارنيغي في بيروت وتحديدا مديره آنذاك الدكتور بول سالم. وطبعا اختلفنا في التقدير. هو لم يقبل يومها فكرة الالتزام الروسي بالمواجهة في سوريا كالتزام استراتيجي واعتبر هذا الموقف يعبِّر عن اتجاه النخبة الروسية النافذة وغير المتحمسة لتورّط في سوريا. وأنا، كما فعلتُ منذ بداية الأزمة، في كل مقالاتي كنت أعتقد أن المواجهة الدائرة يخوضها بوتين على جناحين دفاعيين رئيسيين : أوكرانيا في الغرب وسوريا في الجنوب. يكفي أن ورقته التي عارضتها كانت تحت عنوان “سياسة روسيا السورية – التحالف الوهمي” (مركز كارنغي بيروت 20 آذار 2013).

المهم اليوم صار هذا النقاش وراء الجميع بعدما فاجأ بوتين العالم بدخوله القوي المباشر إلى الحرب السورية وإقامته علنا قواعد عسكرية على طول الشاطئ السوري وربما في العاصمة دمشق.

أقف عند هذا الموضوع لا لأنتقد فقط الدكتور ترينن في مسؤوليته وآخرين عن تحليل ثبت أنه أدى دورا مضلِّلاً في العالم العربي وبين المعارضات السورية حول احتمالات تطور الموقف الروسي التي ظهر أنها خطيرة، بل أيضا لأحذِّر من أن هذا الميل التخفيفي من راديكالية الموقف الروسي السياسي في سوريا لا يزال مستمرا كما ظهر في رأي ترينن الأخير في “النيويورك تايمز” من حيث ترويج فكرة “الفتور”.

المعارضة العلمانية السورية يكفيها ما وصلت إليه من نكبات في موقعها وهامشيته التي لا تُطاق في الوضع السوري بعدما طرَدَتْها وحوشُ الأصوليين الإسلاميّين الكاسرة من أي حضور ميداني على الأرض السورية مع أنها، أي هذه المعارضة العلمانية، هي “أمُّ الثورة السورية” ومحركتها الأصلية… آن الأوان اليوم لبناء حسابات واقعية، دولية خصوصا، حيال النظام البعثي السوري وقوته وتحالفاته العميقة.

وللأستاذ ترينن أقول: ثبت أن ما يحب أن يسمعه الغرب ليس الحقيقة وأن التحليلات التي انخرط فيها البعض في موسكو والغرب ساهمت في عدم فهم مؤذٍ لحسابات دقيقة.

هذه هي نتائج العسكرة التي هلّل لها المعارضون وأصبحت الآن تنافسا على من يحق له القصف أكثر: الطيران الأميركي أم الروسي؟