“بعد الاتفاق النووي ليس كما قبله”؛ هذه حكمةٌ من ذهبٍ خالص. لو كنتُ من أهل الطبقة السياسية اللبنانية، لَدعوتُ نفسي وحلفائي وأتباعي إلى التعامل مع هذه الحكمة على هذا الأساس، ولَوجّهتُ نداءً حارّاً إلى الآخرين لتلقّفها على اختلاف نزعاتهم، تلقّفاً لا تردّد فيه. العقلاء بين اللبنانيين، كما الحمقى، ينبغي لهم أن يعيدوا النظر جذرياً في تصوّراتهم المحلية والإقليمية، حروبهم الصغيرة والكبيرة، ترّهاتهم، انفعالاتهم، وأوهامهم حول أنفسهم وحول غيرهم. ربما آن الأوان ليفعل العقل الوجودي والكياني اللبناني فعله، في غمرة ما يجتاح سوريا والعراق من أحوال، وما ينتظرهما من مصائر. لكنْ، هل مَن يتّعظ من اللبنانيين؟!
نحن اللبنانيين، “مين متلنا ومين قدّنا”؟! الشمس من عندنا، والقمر، ثمّ هاتيك النجوم والمجرّات والكواكب التائهات. فإذا سماءٌ تباخلت بالغيوم، أتيناها بالتي تبتلّ وتهمي. وإذا أوجاعٌ وأهوالٌ تنادت، صددناها بمثل ما تروي الأساطير. وإذا أجيالٌ تشرّدتْ، وأحلامٌ تبدّدتْ، استعدناها مثلما تستعاد النظرات إلى العيون. ليس لماضينا بداية، وهو الأزل، ولن يكون لمستقبلنا أفول، فهو الخلود. الينابيع والأنهار في أرضنا الحلال، ثمّ البترول والغاز يغفوان في بحرنا الأبيض الأزرق، فمَن مثلنا! ثمّة، بعدُ، مَن يريد شعراً يزهو بالبلاد وشعبها. لكنّ الشعر في كلّ مكان، وهو معروضٌ في السوق، وقد مللناه وقائليه، ولم يعد يعنينا في شيء. لنا أن نضرب الوهم ضرباً محنّكاً، فمن واجب صوّانه أن يحمل إلينا وإلى العالم المحيط نوعاً من شررٍ غير مسبوق. قيل إننا من الليل نأتي، نعم، ومن اليقين. نهتك المستحيل هتكاً، ونمنحه مثلما تُمنَح الكروم لزوّار الدروب.
* * *
النتيجة: نحوٌ من سبعين مليار دولار ديناً عاماً. وبلادٌ موقوفة للغربان والزعران وشذّاذ الآفاق!
* * *
إنه العرس. بدل الحرية، نشتاق العبودية. بدل الوطن، نستجلب الدول. وبدل الدولة المدنية، نتهادى الطوائف والمذاهب، ونشحذ بنادق الترهيب وسيوف اللفظ، ونتعمشق؛ بعضنا بالسعودية، وبعضنا الآخر بإيران. وهناك مَن يتعمشق بسرابٍ مستحيل.
هذا ليس عرساً. إنه معرسة. وهو ليس فرحاً. بل مقتلة.
* * *
نعم، ليس مجلس النواب شرعياً. فلنختمه بالشمع الأحمر. ولا الحكومة شرعية، فلننفض أيدينا منها.
لن ننتخب رئيساً. مظبوط. ولِمَ لا؟! لكنْ، آنذاك، ليذهبْ، كلٌّ إلى بيته. وليصمت الجميع. كمَن يُقبَض على الجميع في جرمٍ مشهود، إلى أن تقضي الأمم فينا، أمراً كان مفعولا.
* * *
ولتُدَر شؤونُنا على طريقة وحوش الغابات. وليقضِ مَن يقضي. أو، رويداً، فلتُدَر بالتي هي أحسن. مثلما كانت تُدار في أيام الجوع والعوز والمرض والليل والموت. فقد كنا نعيش على فتات الخبز وزيت الزيتون. وكان، ما أحلانا، كرامةً وكبرياء وكفاية.
* * *
الآن، لو ذرّةٌ من كرامة، كانت اجترحت أعجوبة. لكن لا ذرّة، ولا كرامة، ولا مَن يجترحون!
* * *
نتباهى (أو ننكر) بأننا أزلام (أو حلفاء) للسعودية وإيران. فلنتباهَ، أو فلننكر. ليس من فارقٍ كبير. في الحالَين، قمح رح تعجني، يا حنّة! وإذا ليس من قمح، فلعلّةٍ فينا فحسب: أولاً وأخيراً وبين بين. فـ”مين متلنا، ومين قدّنا”!
* * *
لا تُنتظَر فضائح “ويكيليكس” وسواها لنشر الغسيل على السطوح. غسيلنا منشورٌ، أو مستورٌ، بالتساوي، أينما كان. مضحكٌ أن بعضنا ينتظر هذه الفضيحة أو تلك، ليتباهى على غيره. من شيمنا أننا نتغافل عن المرحاض العام الذي نحن فيه، وعن الأوساخ، وهي عمومية وكثيفة. إنها على عينك يا تاجر، في الجيوب والأيدي والقلوب والعقول والضمائر، وعلى رؤوس السطوح. ولا استثناء. فـ”مين متلنا، ومين قدّنا”!
* * *
ثمّ، اطمئنوا. كلّنا “دواعش”، مسيحيين وسنّةً وشيعةً ودروزاً وهلمّ! فأوعا حدا يفتكر إنّو “الدواعش” هم ممّن يُتَّهم بهم السنّة فقط. من شو بيشكو الشيعة؟ والدروز؟ وغيرهن وغيراتهن؟ ثمّ، انتبهوا عليّي منيح منيح. أوعا تفتكرو إنّي بدّي حيِّد الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك وهلمّ. كلكن يعني كلكن!
* * *
على فوقا، أنا معجبٌ جداً جداً وكثيراً، بأولئك الذين يصادرون المسيحيين، ويتحدّثون باسمهم. لكنْ، مهلاً، وبجديةٍ قصوى؛ لازم هودي الجماعة يعرفو حدودهم. ما حدا مخوّل يحكي باسم المسيحيين. ما يحلم حدا يحكي باسم المسيحيين. ولا حتى المؤسسة الدينية. كبيرة على رقبة الجميع، التكلم باسم المسيحيين. ولا استثناء.
هناك، في العميق الأعمق، غير المرئي، غير المحسوس، يجري نهر المسيح. وهو نبعٌ كلّه. مسيحيون كثرٌ يعتقدون أن لا أحد، من هؤلاء وأولئك، يسبح فيه!
أشهد: كبيرة على رقبتهم جميعاً، مصادرة المسيح، و… المطالبة بحقوقه.
* * *
ثمّ، أنا معجبٌ جداً جداً وكثيراً، بأسراب الميامين الذين يتعاطون وسائل التواصل الاجتماعي: فايسبوك، تويتر، واتس آب،… إلخ. تعجبني بشكل خاص، من هنا ومن هناك، ولا تعميم، قراءاتهم “الملهمة” للأبحاث والمقالات والآراء، التي تتناول شؤوناً مهيبة من شؤون بلدنا وحياتنا، وشجونهما. وكم تعجبني – ولا تعميم أيضاً – ردود أفعالهم الغرائزية، الببغائية، الرخيصة، المبسّطة، الرعناء، التافهة، السطحية، الطائفية، المذهبية، التي تعكس لا الاختلاف في الرأي والتفكير و… ثقافة السياسة، بل تعكس حصراً، المفهوم القطيعي لـ”الرأي العام”.
عزاؤنا أن المشهد، هو على هذه الحال. هكذا يطمئن أهل “الملحق” إلى أنهم طيور تغرّد خارج السرب. خارج الأسراب كلّها. ولا استثناء.
* * *
لقد أصبحت الشتيمة عنوان افتخارنا وبرهان انتصارنا. مَن لا يعرفنا جيداً فليستدلّ علينا بضوء الشتيمة الغامر الذي يكلّل فضاءنا السياسي والاجتماعي، ويلفح مجالسنا، ويهجّنها بلغته السمحاء. لقد صرنا فرجة العالم ومسخرته. مَن يريد أن يتسلّى ويفرّج عن كربته، فليعرّج علينا. لا شبابيك تذاكر، ولا مَن يدفعون. الفرجة مجانية، والمكان يتسع. فليتأكد المهتمون، الفضوليون، الزوّار والسيّاح، فضلاً عن المقيمين هنا، في الضواحي، والأنحاء البعيدة، أن الطريق إلينا لم يعد متاهةً صمّاء، ولا أرضاً قفراء. بل أشبه ما يكون بالطريق الذي اتخذه المجوس مسلكاً للوصول إلى مغارة بيت لحم. لقد كان ذلك الطريق سماوياً، نيّراً، ليّناً وساطعاً. وهو الآن، غامرٌ، أكثر أكثر، كما لم يكن قبلاً. يكفي أن ينصت القادمون، من قريب أو من بعيد، إلى شتائمنا، لكي يعرفوا أننا هنا، وأن نهاراتنا طويلة، وليالي سمرنا لن تنقضي سريعاً، بل نحن سنطوي الأيام طيّاً ومعها الليالي، ساهرين بعيون مفتوحة مبحلقة، إلى مشارف الفجر الأكيد.
إنه العرس، نعم. بدل الدبكة، نستجلب حفلات الشتيمة. هي عَرَقُنا المثلّث، وكبّتنا النيّئة، وتبّولتنا، وأرزتنا المفتخرة. فـ”مين متلنا ومين قدّنا”؟! لا. لسنا متعددي اللغات. لم تعد العربية لغتنا، ولا الفرنسية، ولا الانكليزية. الشتيمة وحدها هي اللغة، وهي المبتغاة، يتبادلها الذين يتباهون بالعفة وهم فجّارٌ عهّار، ويتبادلها الأصحّاء والمرضى والعظاميون والطارئون والمنتفخون بأنفسهم والمنتهزون والسارقون والمتنطحون من نزلاء الحياة السياسية وأبناء المجتمع، وثمّة في الخلفية أتباعُهم من نزلاء العالمَين الواقعي والافتراضي. هؤلاء جميعهم يتهادونها بشغف ما بعده شغف، وبإيمانٍ أين منه إيمان المؤمنين من أهل “داعش” وأهل محارق البترول في الخليج العربي الفارسي. افرحوا وتهلّلوا: لقد صرنا شعباً واحداً، وصارت لغتنا واحدة موحدة، ولم يعد عندنا مشكلة في التخاطب والتفاهم! من الضروري أن ينبري المعنيون عندنا إلى إدراجها باعتبارها لغةً رسمية وحيدة، على غرار ما تكون عليه اللغات الواحدة والأنظمة الواحدة والحكّام الواحدون والأشخاص الواحدون.
نحن اللبنانيين، الزعران الميامين. “مين متلنا ومين قدّنا”؟!
* * *
لكن، لا. على مهلكم شوي. اللبنانيون ليسوا كلّهم هكذا. ثمّة لبنانيون آخرون بالتأكيد. يقيمون ها هنا، في الوجدان المطلق، في روح الأشجار، في ضمير الهواء، في التراب، في الرغبات، في الهواجس، في البيوت، وفي الأماكن الخاصة والعامة. هؤلاء خميرة لبنان. ولن تنفسد خميرةٌ، ما دام هؤلاء لا ييأسون، ولا ينكفئون. وليعلم أولئك الذين يصادرون المسيحيين والمسلمين والعلمانيين والمدنيين واللاأدريين واللامؤمنين واللامنتمين – وهم أنفسهم، وغيرهم، الذين يسكّتون الأحرار والمتمردين، ويشلّونهم، ويهشّلونهم – ليعلموا أن الخميرة، آجلاً أم عاجلاً، ولا مفرّ، ستنده رائحة الصاج والنار، عندما تحلّ البركة في العجين. آنذاك سـ”يطلع” هذا العجين، ولا بدّ، وسيكون ثمّة خبزٌ وافرٌ وكثيف للبنانيين الحالمين، وللثوّار، وللأجنّة منهم، واليتامى، والفقراء، والمكسورين، والموجوعين، والمنهزمين، ولشعراء الحياة والحرية والحبّ أجمعين.
وآنذاك، نهتف: نحن اللبنانيين…!