يوم هزمت ميليشيا «حزب الله» فصائل «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» في بلدة القصير السورية الحدودية مع لبنان، ربيع عام 2013 اشتعلت الاحتفالات في بيئة الحزب في كل أنحاء لبنان. كانت المسيرات السيارة والمفرقعات الكثيفة أمارة على أن «زمن الانتصارات» الذي وعد به الأمين العام للحزب حسن نصر الله، زمن حقيقي وليس نفخاً في الهواء، وأن الدور الإقليمي لهذه الجماعة اللبنانية في تقرير مصير المشرق العربي، وربما أبعد، حقيقي، ويُقزم الأثمان التي تدفعها الجماعة من الأرواح والأموال.
لم تكن الصورة كذلك يوم استرداد درعا خلال الأسبوعين الماضيين. صحيح أن من دخلها هو جيش الأسد برعاية روسية وترحيب إسرائيلي علني، وصحيح أن الجغرافيا السياسية للمنطقة بوصفها خط تماس بين إسرائيل وإيران تمنع الحضور المباشر للحزب في المعركة، لكن ذلك لا يفسر غياب أي احتفالية عن رفع علم سوريا الأسد في مهد الثورة السورية التي أطلقها صبية درعا بكتابات عفوية على الجدران…
انتصار الأسد في درعا مر في بيروت. هو مر بلا أدنى شك على من راهن على انتصار الثورة ثم شاهدها ترتطم بأرض الوقائع الجيوسياسية في المشرق، وعاين كيف يمكن أن تمزق بلاد بأهلها وأرضها، ويحترق البلد ويبقى الأسد؛ بحسب قول شهير في الثقافة الأسدية. خسر الفريق السيادي الرهان على الحرب في سوريا، وعليه الآن أن يتأقلم مع بقاء الأسد، ولو ضمن تركيبة جديدة في سوريا مختلفة عن كل ما خبرناه نحن اللبنانيين منذ مارس (آذار) 1971.
في المقابل خسر، بين اللبنانيين، من راهن على استعادة سوريا الأسد بدورها القديم وتموضعها السابق ضمن محور المقاومة. استعادة درعا مرة على من يعاين التنسيق الإسرائيلي – السوري غير المباشر، ويتأكد كل لحظة من رحابة الصدر الروسية في تفهم هواجس بنيامين نتنياهو، على حساب أحلام طهران في توحيد الجبهة أو خط التماس الإسرائيلي – المشرقي من جنوب لبنان إلى الجولان.
في لبنان خاسران، ولو تلهى كل واحد منهما بحسابات وبهلوانيات رياضية ترجح كفته على الآخر. فأياً كانت حصص كل منهما في سوريا، فهي لا تقارن بحجم استثماراتهما خلال 7 سنوات من عمر الحرب.
الخاسر الأول؛ أي الفريق السيادي اللبناني، سيراهن بلا ضمانات كثيرة على الحماية الروسية له ولمصالحه، وأن يكون فلاديمير بوتين هو الحاجز في وجه أحلام العودة السورية إلى لبنان، وهي بدأت، في مخيلات بعض اللبنانيين قبل السوريين.
أولى علامات هذا المسار الصعب ملف النازحين السوريين في لبنان الذي يستغله حلفاء سوريا لفرض التطبيع بين بيروت ودمشق، ما حدا برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، إلى إيجاد إطار لبناني – روسي مشترك لمعالجة الملف درءاً لإطار لبناني – سوري يضغط باتجاهه خصومه. قريباً سيتحرك الملف الاقتصادي بين البلدين، وسيعمل خصوم الفريق السيادي على التذرع بمصالح حقيقية للمزارعين والتجار اللبنانيين، من أجل فرض التطبيع المنشود، وستزداد صعوبة مقاومة هذا الضغط. سيلي ذلك ملف إعمار سوريا، وهو ما ستلوح به دمشق لأصحاب المصالح الكثيرة والكبيرة في لبنان، لمزيد من تآكل مرتكزات الممانعة للتطبيع مع سوريا الأسد.
الخاسر الثاني؛ أي «حزب الله»، قد يبدو لوهلة أقل خسارة بسبب نجاة الأسد، لكنه فريق يشبه ما حصل له تماماً ما حصل لحافظ الأسد في العلاقة مع الخميني… فخلال اجتياح إسرائيل للبنان صيف 1982، حرص الأسد على ألا يقبل بأي دور لـ«الحرس الثوري» الإيراني في المواجهة، رغم عروض متكررة من الخميني في هذا الاتجاه. ثم عاد وقبل حين تجاوزت إسرائيل خطوطاً متفاهماً عليها ضمناً مع الأسد. دخل «الحرس الثوري» جنوب لبنان، وخلال سنة أثبت عبر تفجيري؛ السفارة الأميركية في بيروت (أبريل/ نيسان 1983)، ومقر المارينز (أكتوبر/ تشرين الأول 1983)، أنه لاعب مختلف بأدواته ومشروعه وقدراته… وما هي إلا سنتان حتى دارت الحرب السورية – الإيرانية غير المباشرة عبر اللبنانيين الشيعة، وانتهت بانتصار إيران في لبنان… استنجد الأسد الأب بالخميني فانتهى وريثه الأسد الابن ورقة بين أوراق إيران. واستنجد وريث الخميني، علي خامنئي بروسيا، وها هو يعاين الحدود الضيقة لتعريف المصالح المشتركة بين طهران وموسكو، والضوابط الضخمة على مشروعه الأوسع في مواجهة إسرائيل. كما الخاسر الأول؛ يراهن الخاسر الثاني على كرم أخلاق بوتين. ستعض إيران وميليشياتها على جراحها وهي تهان يومياً في سوريا عبر الضربات الإسرائيلية المتفاهم عليها مع موسكو، والتي تمتد، بالمناسبة، من شرق سوريا على الحدود مع العراق، إلى وسطها… إلى غربها على الحدود مع لبنان.
وسيدخل الخاسران في لعبة انتظار جديدة؛ الأول ينتظر أن تتبلور ظروف تحيل الأسد إلى التقاعد ليحصل عبر السياسة الدولية على ما لم يحصل عليه عبر ثورة السوريين. وينتظر الثاني في ما تيسر له من بقعة داخل سوريا أملاً باهتزاز المغامرة الروسية، ورهاناً على أن ساعة طهران أبطأ من ساعة موسكو في ما يخص التحديات التي تواجه كلاً من البلدين. بين الانتظارين بلد صغير معلق على حافة الهاوية.