نرفض التطاول والتحامل على بكركي وسيدها. فالصرح البطريركي مقام ديني كبير وكل تعدٍ أو تهجم عليه هو تهجم على الجماعة التي يقود ويرعى. كذلك فان بكركي هي مقام ومرجع وطني كبير تلتزم خطاً تاريخياً وطنياً ولا تحيد عنه، هذا ما يكمل به البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ما كان بدأه اسلافه وآخرهم الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير (أطال الله بعمره).
نعم نرفض اي تطاول على بكركي، خصوصاً عندما تكون هذه الحملات مدفوعة من جهات تتربص شراً ببكركي ورسالتها. فالبطريرك الراعي لم يتردد في كشف المحاولات الجارية للنيل من دور بكركي وصورتها، وفي التلميح إلى جهات تحرض وتعرض اموالاً على وسائل ومواقع اعلامية للتشهير بالبطريرك والتأثير عليه وعلى دوره الوطني.
عندما انتخب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بطريركاً على انطاكيا وسائر المشرق، كنا أول من فرح وهلل وبشّر بـ «ربيع الكنيسة» الذي سيولد على يد هذا البطريرك الثائر والنابض بالشباب والحيوية. وهو لم يألُ جهداً منذ اعتلائه السدة البطريركية من اجل اعلاء شأن الكنيسة وتعزيز حضورها ودورها. فكانت له صولات وجولات في كل انحاء العالم على الرعايا المارونية وعلى حكام البلدان المضيفة، فهو في حركة دائمة لا تهدأ وعزيمة لا تلين ولا تستكين.
ولكن بعد عدة سنوات على تسلمه زمام المسؤولية وأقولها بكل محبة وحرص جاءت النتائج في بعض الملفات أقل من المتوقع والمطلوب وما كنا ننتظره على بعض المستويات (الكنسية والسياسية)، لم تأتِ على مستوى الآمال التي عقدت، لذلك لا نُفاجأ إذا عبّر البعض عن خيبة ودعا البعض الآخر إلى تقويم الاعوجاج في مؤسسات كنسية على تماس يومي مع الناس والمجتمع والناس خصوصاً اذا كان هذا البعض ينتقد باحترام وعن حسن نية ومن باب حرصه على الكنيسة ودورها .
يقول المثل الشعبي : (الحق مش على الي بيحكي الحق على الي بخلي الناس تحكي عليه) من هنا لا بد من توضيح بعض الحقائق والتحدث بصراحة متناهية لنطالب سيد بكركي الذي نجل ونحترم باجراء مراجعة شاملة واعادة تقييم للوضع من كافة جوانبه الكنسية والسياسية والوطنية، والاهتمام اكثر بوضع الكنيسة الداخلي في لبنان، لأن بعض هذه الحملات لا تأتي من فراغ وانما تستند في بعض الاحيان إلى عناصر ومعطيات إذ «لا دخان من دون نار»، ولأن التصدي لهذه الحملات يكون باقفال كل الثغرات التي ينفذ منها المنتقدون.
البداية تكون من داخل البيـــت. ونــعني بـيت الله أي الكنيسة المارونية الكاثوليـكية التي إئتمن على دورها ومصيرها البطريرك الماروني والتي تحتاج في كثير من المواقع إلى اصلاحات سريعة وجذرية لتنقية صورتها من الشـــوائب وتوطيــد علاقة وثــقة الشعب المؤمن بكنيســـته ورجالاتها القــيّمين عليها، وتفعيل مؤسساتها ودورها في كل المجالات…
فعلى سبيل المثال لا الحصر, هناك «فضيحة» كبيرة يجب وضع حد نهائي لها اسمها المحاكم الروحية (وما ادراكم ما المحاكم الروحية) حيث يعشعش الفساد والابتزاز والتحرش والرشوة حتى لا نقول اكثر، وهناك «فضيحة» أخرى تحدث عنها الاعلام باسهاب وتجاوزت الخطوط الحمراء تدعى (بيت المحبة – أدونيس جبيل) وبطلها المدعو جورج كيوان وهي فضيحة قائمة على الهرطقة الدينية والمضحك المبكي أن ابطالها الى جانب كيوان، عدد من الكهنة الذين ورغم التدابير الاحترازية التي فرضت عليهم، لا يزالون يؤمنون الغطاء لكيوان، ويدافعون عنه، والسؤال هنا لماذا لا يصار إلى اقفال هذا الملف بسرعة واتخاذ كل ما يلزم لايقاف هذه المهزلة وسحبها من التداول الاعلامي؟ اضافة الى ما يحكى في السر والعلن عن حياة بذخ ورفاهية وعلى كل المستويات يعيشها بعض الاساقفة والكهنة وهي تتعارض مع الحياة والرسالة الكهنوتية وهي بعيدة كل البعد عما عاشه السيد المسيح، حيث بعض رجال الدين صاروا طبقة خاصة من الاثرياء وذوي النفوذ، الى آخره من اخبار لسنا بوارد التحدث عنها كلها اليوم، تقال في الصالونات المغلقة والمفتوحة وعلى لسان الغني والفقير والقريب والبعيد وفي وسائل الاعلام وهذا ما يسيء بشكل أو بآخر إلى سمعة الكنيسة والكثير من كهنتها واحبارها المحترمين الذين يعيشون بخوف الله وحسب التعاليم المسيحية الحقيقية, وهذا ما يعطي الاعلام وبعض المنتقدين مادة دسمة للتحدث عنها.
امام كل ذلك يجب على الكنيسة والقيمين عليها وعلى رأسهم البطريرك الراعي اعتماد منهجية شفافة ومسؤولة وصارمة في تعاطيهم مع هذه الحالات الشاذة، ومعالجتها فوراً ومحاسبة المقصرين والمتورطين كنسياً وتنقية الجسم الكهنوتي والكنيسة من هذه الشوائب والفضائح التي تزعزع الايمان لدى بعض المؤمنين, وتجعل البعض الآخر يقولون: «اسمعوا اقوالهم ولا تفعلوا افعالهم» وفي الحالتين فان هذا مؤذ ومهين للكنيسة، بحيث يذهب الصالح بظهر الطالح.
كما يجب على رجال الدين والقيّمين على الأمور الكنسية مهما كبرت أو صغرت مواقعهم ان يتحلوا بالجرأة والاقدام وعدم التردد في وضع الأمور في نصابها وتسمية الاشياء باسمائها، وان لا تأسر ألبابهم السلع الدنيوية والارضية. وليكن قداسة الحبر الاعظم البابا فرنسيس الاول القدوة والمثال عندما قرر المساءلة والمحاسبة وتوجيه انتقادات لاذعة إلى كبار اعضاء الادارة المركزية في الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان. حيث كان يتوقع الكهنة والاساقفة والكرادلة ان يسمعوا عبارات مجاملة ومعايدة من البابا، لكنه بدل ذلك وجه إليهم كلاماً قاسياً ولاذعاً وخاطبهم بالقول: «تحتاج الإدارة المركزية للكنيسة الكاثوليكية إلى أن تتغير وتتحسن… والإدارة المركزية التي لا تنتقد ذاتها ولا تعمل على تحديث نفسها ولا تحاول أن تتحسن هي «جسد مريض»، مشيراً إلى أن البعض ممن هم في الإدارة يتصرفون وكأنهم «يتمتعون بالحصانة والخلود أو حتى إنه لا يمكن الاستغناء عنهم». وتحدث عما أسماه «مرض الاكتناز» الذي يجعل رجال الدين «يجمعون الأغراض المادية ليس بدافع الحاجة ولكن ليشعروا بالأمان» وهذا ايضا دليل الى فقر الحال الروحي.
ان بكركي بقيادة البطريرك الراعي الذي لا يزال لنا ملء الثقة به مدعوة اليوم واكثر من اي يوم مـضى إلى قيادة المسيرة الاصلاحية لضرب الفساد الذي ينخر بعض مواقع الكنيسة وبعـض مؤسســاتها وفي اسرع وقت ممكن، كما انها مدعوة ايضاً ليكون دورها اكثر فعالية وحضوراً على المستوى السياسي العام حتى يكون تدخلها في الاستحقاقات الاساسية وفي صياغة السياسات والقرارات الوطنية وعلى رأسها ملف رئاسة الجمهورية مؤثراً ومنتجاً وليس هامشياً.
وفي هذا المجال ايضاً فاننا لا نجاري البعض في رأيهم وفي كلامهم الذي هو في بعض الاحيان «كلام حق يراد به باطل» عندما يتحدثون عن ضرورة التوافق المسيحي حول رئاسة الجمهورية وانهم ينتظرون هذا التوافق بفارغ الصبر ليأخذوا به ويبنوا عليه. فالاستحقاق الرئاسي الذي يعني المسيحيين قبل غيرهم، لا يُسأل عنه المسيحيون لوحدهم لأنه اسير توازنات داخلية دقيقة وأوضاع وصراعات اقليمية معقدة. لكن بكركي مسؤولة عن ادارة مرحلة الفراغ على المستويين المسيحي والوطني، اذ بعدما خسر المسيحيون موقعهم الأول في الدولة (الرئاسة) شخصت انظارهم إلى موقعهم الديني الأول (بكركي) وانتظروا دوراً اقوى وأفعل من جانبها ولكنهم لم يسمعوا إلا الشكوى والتذمر من واقع سيىء يهمش الدولة ومؤسساتها، ولم يسمعوا إلا كلاماً عن تقصير نيابي في القضايا الوطنية وتهديدهم بفضح المسؤولين عن الاطاحة بالاستحقاق الرئاسي من دون ان اي نتيجة عملية … كما لا بد من طرح سؤال لماذا توقفت الاجتماعات المسيحية تحت سقف بكركي في عز الحاجة إليها؟
بكركي مطالبة بان تدفع قادة الاحزاب السياسية المسيحية إلى تحمل مسؤولياتهم التاريخية وادراك ما نحن عليه كمسيحيين وما هم عليه كسياسيين وهذه الهوة المتسعة بين الضفتين والتشجيع على الحوار واللقاء الموعود بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، هذا اللقاء الذي طال انتظاره، لانه على المسيحيين ان يحزموا أمرهم ويتوحدوا، وحدة صف وموقف في زمن المخاطر والتحديات، وليتعظوا من التاريخ ومن تجارب مسيحيين عانوا واضطهدوا وعاشوا التنكيل والتجويع وتعرضوا لابادة جماعية.
اليس هذا ما حصل مع أهلنا ابناء الطائفة الارمنية الذين وقبل مئة عام تماماً اصابهم ما يصيب مسيحيي المشرق في العراق وسوريا هذه السنوات من مذابح وقتل وتهجير والغاء؟
وهنا إذا كان الشيء بالشيء يذكر وفي الذكرى المئوية الأولى على المجازر والمذابح التي ارتكبت ضد اهلنا الارمن والتي يصادف ذكراها في مطلع هذا العام، نقف اجلالاً لشهداء الارمن الابرار واحتراماً للشعب الارمني البطل الذي كان أقوى من المحنة والكارثة واثبت صلابة في الايمان وتماسكاً في الموقف والكلمة، ووحدة الصف في الملمات والامور الاساسية…
ليبقى السؤال الجوهري والأساسي في الختام لماذا لا يتعظ مسيحيو لبنان بالتجربة الارمنية ولماذا لا يقتدون بالنموذج الارمني فيتوحدون ويرتقون في ادائهم وتفكيرهم… أم انهم ينتظرون ان يحل بهم ما حلّ بالارمن في ذلك الزمن الأسود والحزين ليستفيقوا من سباتهم ويشحذوا هممهم ويوحدوا صفوفهم وطاقاتهم؟